ما زال الموقف السياسي للجزائر من التطورات الراهنة في النيجر، متجمداً عند نقطتين أساسيتين: رفض الانقلاب والدعوة للعودة إلى المسار الدستوري من جهة، ورفض أي تدخّل عسكري في النيجر.
لكن تجمّد الموقف في الوقت نفسه يثير الكثير من التساؤلات حول سبب إحجام الجزائر عن القيام بخطوات ميدانية ومبادرة سياسية للبحث عن مخارج للأزمة، التي تهدد بتفجر الوضع في كامل المنطقة. كل ذلك رغم أن قوى سياسية وشعبية في النيجر طالبت، خلال التظاهرات الأخيرة الداعمة للانقلاب في العاصمة نيامي، وفي تصريحات متفرقة، بوساطة جزائرية لحل الأزمة واحتواء كل مخاطر الانزلاق.
الجزائر لم تبد نية للوساطة بالنيجر
وإذا كانت هذه المطالبات الشعبية والسياسية، تعبّر عن موثوقية سياسية وشعبية في النيجر بالدولة الجزائرية، والتي سبق لها أن كانت الطرف الرئيس في هندسة اتفاقات سلام سابقة بين الحكومة المركزية في نيامي وحركات الأزواد قبل العام 2009، فإن الجانب الجزائري لم يُبدِ حتى الآن نيّة في إمكانية القيام بمبادرة وساطة، أو خطوات للمساعدة في حل الأزمة وتجاوزها.
سعيدي عبد الرحمن: الجزائر بحاجة إلى جرأة سياسية أكبر للمساهمة في احتواء الأزمة
بعض التحليلات السياسية تُحذر من أن يكون الموقف الجزائري الحالي بشأن النيجر، شبيهاً للأداء نفسه في الحالة الليبية منذ العام 2011، حيث بقيت الجزائر تتفرج على التطورات وتعبّر عن مواقف، من دون أن يتطور ذلك إلى تدخّلات عملية ومبادرات سياسية. كما تأخرت الجزائر كثيراً في العودة إلى الساحة الليبية بعد ذلك، مقارنة بفواعل إقليمية تمركزت في الساحة الليبية، وأمسكت بخيوط الأزمة.
ثالث تحذير جزائري من التدخل العسكري في النيجر
وفي حالة النيجر، وعلى الرغم من أن المستويين السياسي والعسكري في الجزائر، الرئيس عبد المجيد تبون ووزير الخارجية أحمد عطاف وقائد الجيش الفريق أول السعيد شنقريحة، عبّروا عن مواقف واضحة بشأن المخاطر الأمنية والتوترات التي يمكن أن يفرزها الانقلاب، وتتولد عن أي انزلاق للأوضاع في النيجر، خصوصاً في حال وجود تدخّل عسكري أجنبي، إلا أن ذلك لم يتطور فعلياً إلى خطوات لدرء هذه المخاطر، وهو ما يقلق بعض النخب السياسية.
الموقف الجزائري غير كافٍ
يقر محللون ومتابعون في الجزائر، بأن الموقف الجزائري الراهن غير كافٍ، بالنظر إلى ثقل الجزائر في المنطقة وعلاقتها بالقوى الفاعلة في النيجر. ويؤكد الكاتب والمحلل السياسي سعيدي عبد الرحمن ذلك. ويعتبر في حديث، لـ”العربي الجديد”، أن الجزائر بحاجة إلى جرأة سياسية أكبر للمساهمة في احتواء الأزمة، خصوصاً بسبب الاعتبارات السياسية والحدود والجوار الأمني، والأهمية الاستراتيجية للنيجر بالنسبة للجزائر.
ويقول عبد الرحمن إن “الموقف الجزائري غير كافٍ بالكامل، ويتوجب أن تتجاوز الجزائر التحفظات التي تمنعها من القيام بخطوات ميدانية، وتقحم نفسها بأشكال مختلفة”.
ويلفت إلى أن “الجزائر وضعت لنفسها حاجزاً هو عدم الاعتراف بالانقلاب، ما يجعلها تُحجم عن الذهاب إلى نيامي، ومن جهة أخرى لا تريد فتح جبهة مواجهة سياسية مع دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) وحليفتها فرنسا، ما يجعلها تأخذ الوقت حتى تتحصن بالمواقف الدولية”.
من اللافت أن الجزائر لم توفد أي مسؤول إلى نيامي منذ حدوث الانقلاب، لاستطلاع الموقف والوضع، أو للقاء قادة الانقلاب وباقي الأطراف المحلية. كما لم توفد وزير الخارجية أو مسؤولين إلى أي من دول “إيكواس”، لبحث تطورات ومخارج الممكنة للأزمة. وحتى الآن لا تبدو واضحة أسباب الإحجام الجزائري عن القيام بذلك وعن المبادرة باتجاه الأزمة، لكن بعض التقديرات السياسية ترجع ذلك إلى رغبة الجزائر في منح الوقت الكافي لمجموعة “إيكواس” لاستنفاد كامل مبادراتها للحوار مع الانقلابين، وعدم التشويش عليها وتجنب إثقال الأزمة بتعدد المبادرات.
التريث الجزائري مرتبط بمجموعة أسباب
يفسر أستاذ العلوم السياسية في جامعة سعيدة، المتخصص في شؤون منطقة الساحل مولود ولد الصديق، التريث الجزائري بأنه مرتبط بمجموعة أسباب.
مولود ولد الصديق: التريث الجزائري مرتبط بالرغبة في عدم مزاحمة مجموعة إيكواس
ويقول، في تصريح لـ”العربي الجديد”: “في الغالب تلجأ الدبلوماسية الجزائرية إلى عدم اتخاذ مواقف حاسمة، عكس دول إيكواس، نظراً لتعقد الوضع الداخلي في النيجر وتأثيراته خارجياً، حفاظاً على مصالحها الحيوية التي تبرز أساساً في سياسة حسن الجوار والدفاع عن المصالح القومية الاقتصادية ضمن فضاء إقليمي شديد التوتر والهشاشة وعرضة لكل أشكال التهديدات الأمنية”.
ويرى أن “التريث الجزائري مرتبط بالأساس بالرغبة في عدم مزاحمة مجموعة إيكواس التي بدأت خطواتها مبكراً في مواجهة الأزمة، والنيجر عضو فيها، إضافة لخصوصية النيجر التي تحوي قواعد فرنسية وأميركية، وكذلك الرغبة في التحرك بغطاء أممي وأفريقي أيضاً”، معتبراً أن “الجزائر تستفيد من التجارب السابقة، وهي تتريث إلى غاية توفر عوامل مساعدة للمبادرة بالتوسط، وأعتقد أن الأمر يسير في هذا الاتجاه”.
ويرجح أن “تكون هناك جهود جزائرية غير معلنة، فمنذ تولي أحمد عطاف وزارة الخارجية نلحظ سيرورة مغايرة في التعامل مع الملفات الخارجية، بعودة الدبلوماسية الصامتة الهادئة، والابتعاد عن الضجيج الذي كان يحدث في عهد الوزير السابق رمطان لعمامرة”.
لكن تقديرات أخرى، ترى أن الجزائر تنتظر لحظة سياسية مناسبة لتقديم نفسها كوسيط موثوق ومحايد، وأن الجانب الجزائري بصدد استخدام عامل الوقت، إلى حين تشكل إجماع إقليمي على ضرورة تفعيل وساطة محايدة، ستمثلها الجزائر بالتأكيد، كطرف يحظى بثقة كل أطراف الأزمة في النيجر، الانقلابيين وجناح الرئيس محمد بازوم. وفي الوقت نفسه تحوز الجزائر على ثقة دول “إيكواس” والاتحاد الأوروبي والمنتظم الأممي بصورة عامة، وهي تحاول في الوقت الحالي البقاء على مسافة واحدة في التعامل مع كافة أطراف الأزمة، مع تغليب الحلول الدبلوماسية على العسكرية.
مخاوف الجزائر الأمنية والاقتصادية.
وتتشارك الجزائر مع النيجر ما يقارب الألف كيلومتر من الحدود، وهذا يعني أنها مرشحة لأن تتحمل جزءاً من التبعات الإنسانية بسبب النزوح والهجرة الجماعية المرتقبة، في حال دخول المنطقة في أتون أزمة إنسانية وأمنية خطيرة، إضافة إلى التبعات الأمنية المتصلة بالمخاطر البارزة والعودة اللافتة للتنظيمات وللجماعات المسلحة للنشاط في كامل المنطقة.
يضاف إلى ذلك مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى تعطل مصالح اقتصادية ومشاريع حيوية، توجد في مرحلة التشكل مع النيجر وعموم دول الساحل، على غرار تنقيب شركة “سوناطراك” الجزائرية عن النفط شمال النيجر، ومشروع أنبوب الغاز نيجيريا-الجزائر، مروراً بالنيجر، ومشروعي الطريق وخط الألياف البصرية العابرين للصحراء، والتعويل على إنشاء منطقة تجارة حرة في شمال النيجر.
وفي إبريل/نيسان الماضي، وقّعت الجزائر والنيجر، خلال زيارة أجراها نائب رئيس أركان القوات المسلحة في النيجر العميد إبراهيم عيسى بولاما، إلى قيادة المنطقة العسكرية الخامسة في تمنراست، جنوبي الجزائر، اتفاقاً عسكرياً يقضي بتسيير دوريات عسكرية مشتركة على كامل الشريط الحدودي الفاصل بين الجزائر والنيجر، وتكثيف التنسيق العملياتي، بهدف مجابهة مختلف أشكال التهديدات الأمنية، ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والهجرة غير الشرعية.
كما ترتبط الجزائر والنيجر باتفاقات تعاون عسكري، في إطار هيئة العمليات العسكرية المشتركة التي تضم أيضاً موريتانيا ومالي، والتي جرى تفعيل آلياتها الميدانية خلال اجتماع قادة الجيوش الأربعة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.