عمان- في 21 آذار/ مارس الحالي، أعلن وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، خلال مؤتمر صحفي “انخراط بلاده مع الحكومة السورية في حوار سياسي يستهدف حل الأزمة ومعالجة تبعاتها الانسانية والأمنية والسياسية”، بتنسيق كامل مع الأمم المتحدة ودول عربية حول ما أسماه “المبادرة الأردنية لحل الأزمة السورية” وتفاصيلها وموعد إطلاقها وآليات عملها.
جاء تصريح الصفدي بعد لقائه مع المبعوث الخاص للأمم المتحدة لسوريا، جير بيدرسون في عمّان، وكان الصفدي التقى مع بشار الأسد في 15 شباط/ فبراير الماضي في أول زيارة لمسؤول حكومي رسمي إلى دمشق منذ آذار/ مارس 2011.
تستند خطة عمّان على مبدأ المعاملة بالمثل “ساعدنا حتى نتمكن من مساعدتك”، وقد تكون انعطافة في مسار العلاقات، التي تأثرت منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، ووصلت حدّ القطيعة. ليعود التقارب الحذر بين البلدين منذ عام 2021، ويبدو أن الإعلان الأخير يؤسس لمرحلة جديدة، ويتوّج جهود التطبيع العربي والإقليمي مع الأسد، الذي بدأ يخرج من عزلته.
تسعى الأردن عبر مبادرتها حلّ مجموعة من القضايا الرئيسية مع سوريا، تتمثل في عودة اللاجئين، التهريب، والميليشيات، كما نقل موقع “ميدل إيست آي”، عن مسؤولين أردنيين، ولكن ما هي حظوظ نجاحها؟
ما هي المبادرة؟
المبادرة الأردنية لفكفكة الأزمة السورية ليست جديدة، إذ طرح سابقاً مشروع “اللا ورقة”، لكن الجهود الأخيرة “تبدو جديّة هذه المرة” كما قال مسؤول أردني لـ”سوريا على طول”، مستنداً إلى “تحركات وزير الخارجية الأردني النشطة تجاه الملف السوري”، التي تكشف عن “نوايا حقيقية لإعادة العلاقات بين عمان ودمشق على مستوى رفيع”.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، قدمت عمان إلى حكومة واشنطن مشروع “اللا ورقة” وهو رؤية غير رسمية للتعامل مع الملف السوري على أساس تغيير سلوك النظام تدريجياً بمنحهِ حوافز يقابلها إجراءات مطلوبة منه وصولاً إلى تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 المتعلق بوقف إطلاق النار والوصول إلى تسوية سياسية من جهة، ووقف النفوذ الإيراني في دمشق من جهة أخرى.
عدا عن أن مشروع “اللا ورقة” لم يتحقق، وجدت الأردن نفسها أمام حركة تهريب نشطة للمخدرات من سوريا عبر أراضيها، ما دفعها إلى اتخاذ تدابير أمنية، العام الماضي، على حدودها، متخوفة من نشاط الميليشيات الإيرانية، المتهمة بالتهريب، نتيجة الفراغ الذي تركته روسيا بحربها على أوكرانيا.
مع دخول الثورة السورية عامها الثالث عشر، وتغير أولويات المجتمع الدولي بفعل الحرب الروسية-الأوكرانية، وتضاءل الدعم المخصص للاجئين السوريين، صارت الأزمة السورية عبئاً على الأردن، كما قال المحلل السياسي عامر السبايلة لـ”سوريا على طول”، وتحولت إلى ملفات شائكة: مثل تراجع الحركة التجارية البرية، وارتفاع وتيرة تهريب المخدرات، والسلاح عبر الحدود بين البلدين، التي يبلغ طولها 375 كيلومتراً. لذلك أعادت عمان إحياء المبادرة مرة أخرى، بتنسيق مع الإمارات، وهي ثاني دولة عربية بعد عُمان يزورها الأسد منذ اندلاع الاحتجاجات في بلاده.
تستند المبادرة إلى قاعدة “خطوة مقابل خطوة”. بهذا المعنى تنتظر عمّان أن تخطو دمشق خطوات إيجابية تجاه الإقليم، لإعادتها إلى “الحضن العربي” وتخليصها من الهيمنة الإيرانية، وفق السبايلة، مستبعداً في الوقت ذاته أن يقدّم الأسد “تنازلات مرضية للمجتمع الدولي وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعارض سياسات روسيا وحربها المفتوحة على الغرب”.
يعزز هذا الاتجاه، ترحيب الأسد بتدشين قواعد روسية جديدة في سوريا خلال زيارته إلى موسكو منتصف آذار/ مارس الحالي، بحسب السبايلة “وطالما أن الأسد يوغل في علاقاته مع الروس، فإن أي تحركات عربية ستبقى سقيمة لأنها ستكون رهن مباركة أمريكية صعبة المنال”، على حد قوله.
تأكيداً على ذلك، قالت وزارة الخارجية الأميركية أن واشنطن لن تطبع علاقاتها مع نظام الأسد، ولا تشجع الآخرين على فعل ذلك، ناهيك عن أن وزارة خزانتها فرضت عقوبات جديدة على اثنين من أقارب بشار الأسد في إطار ما بات يعرف بـ “حرب الكبتاجون”.
في المقابل، اعتبر مؤسس المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان، الدكتور هيثم مناع، أن تصريحات واشنطن تعكس أهمية تحركات عمّان، وتميط اللثام عن “قلق أمريكي من أن تؤت المبادرة الأردنية العربية أُكلها”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
وتوقع مناع أن يسهل الأسد عمل أي مبادرة عربية لأنه “لا يعتبر تقديم التنازلات للعرب هزيمة”، مستشهداً على ذلك بتطور العلاقات بين دمشق وأبوظبي بعد أن أعادت الإمارات فتح سفارتها في سوريا عام 2018.
ومع ذلك، “لن تكون المبادرة الأردنية مثالية او ناجحة بالضرورة، لكنها محاولة قد تفتح الأبواب أمام الحل” وفقاً لمناع، وبكل الأحوال لا تمثّل اعترافاً بالأسد، لكنها “مفاوضات يحدد مصيرها تنازلات أطرافها”.
وذهب مناع إلى أن معارضة عودة الملف السوري للعرب، هدفها “إطالة أمد الدمار”، وإبقاء سوريا دائرة في فلك إيران وروسيا وتركيا ومصالحهم فيها.
لماذا تحركت عمّان؟
في أيلول/ سبتمبر 2021 فتح الأردن كوّةً في جدار العزلة التي تعيشها دمشق، وأعاد الانخراط مع النظام السوري على مستويات رفيعة. بدأ بلقاء جمع قائد الجيش الأردني، يوسف الحنيطي، بوزير دفاع حكومة دمشق، العماد علي أيوب في عمان، تبعه استقبال رئيس الوزراء الأردني، بشر الخصاونة، وفداً من الحكومة السورية، ضم وزراء الاقتصاد والموارد المائية والزراعة والكهرباء.
وبلغت العلاقات ذروتها آنذاك، في 3 تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته، عندما تلقى الملك الأردني، عبد الله الثاني، اتصالاً هاتفيا من بشار الأسد، تناول العلاقات بين البلدين وسبل تعزيزها، بالتزامن مع استكمال الاتفاق على استئناف الرحلات الجوية بين عمّان ودمشق.
ولم يكد التقارب بين الجانبين أن يثمر، حتى انسحبت روسيا من الجنوب السوري لانشغالها بحربها مع أوكرانيا، وتنامى قلق عمّان من أن تملأ إيران ووكلاؤها الفراغ الروسي، وتدفق الكبتاجون إلى الأردن عبر الحدود الشمالية والشرقية الوعرة، حتى أصبحت علامة “صُنع في سوريا” مرتبطة بإنتاج وتصدير المخدرات بعد أن كانت سابقًا للسلع والمواد الغذائية والمنتجات القطنية المنتشرة في أسواق الأردن.
أمام التهديدات العابرة إلى الأردن من جارتها، “إذا استطاع النظام فرض سيطرته المطلقة على الحدود، وتحمل مسؤولياته تجاهها، بإمكان الأردن الذي يخوض الحرب ضد المخدرات وحيداً، عقد تفاهمات مع جهة واحدة مسؤولة عن أمن الحدود بدلاً من التفاوض مع مجموعات مختلفة”، كما قال مدير الأمن العام الأردني السابق الفريق المتقاعد حسين الحواتمة.
ورأى الحواتمة في حديثه لـ”سوريا على طول” أن من مصلحة الأردن التعامل مع نظام مجرّب “نعرف طبيعته بحسناتها وسيئاتها أفضل من بروز قيادات غير ناضجة نجهل سياساتها وسلوكها”. ناهيك عن أن استمرار الصراع في الجارة الشمالية بات “مناخاً خصباً لنمو الجماعات الإرهابية والفصائل المختلفة، وهو ما لا يتفق مع مصالح الدولة العليا”، بحسب الحواتمة.
على صعيد آخر، تمثل الاعتبارات الاقتصادية والديموغرافية سببين آخرين لإعادة الانفتاح على دمشق. حيث يستضيف الأردن نحو 1.3 مليون لاجئ سوري، بينهم نحو 667 ألفا مسجلين لدى مفوضية شؤون اللاجئين، في وقت تعاني عمّان من تردي الظروف الاقتصادية، وارتفاع نسب الفقر والبطالة، التي بلغت 24%، وانخفاض المداخيل الشهرية، بواقع 260 دينار أردني (366 دولار أميركي)، ونضوب الموارد الطبيعية.
أظهر استطلاع رأي أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، أن 71% من الأردنيين (عينة الدراسة 1208 شخصاً)، ذهبوا مع عودة للاجئين السوريين إلى بلادهم شريطة تحسن الأوضاع الاقتصادية والأمنية فيها.
لذا، يرى الأردن أن نجاح المبادرة “يُهيئ الظروف اللازمة للعودة الطوعية للاجئين”، وهو ما أكد عليه وزير الخارجية، أيمن الصفدي، خلال لقائه مع نظيره السوري فيصل المقداد في أيلول/ سبتمبر الماضي. بلغ عدد اللاجئين السوريين العائدين، منذ فتح الحدود في 2018 حتى نهاية تموز/ يوليو الماضي، نحو 46 ألف لاجئاً فقط، بينهم خمسة آلاف وخمسمئة لاجئ من مخيم الزعتري.
من جانب آخر، تراجعت الحركة التجارية بين البلدين، في العام الماضي، حوالي ثلاثة أضعاف عما كانت عليه عام 2011، بحسب أرقام حصلت عليها “سوريا على طول” من رئيس غرفة تجارة الأردن، خليل الحاج توفيق. في عام 2011 بلغ حجم الصادرات الأردنية إلى سوريا 181 مليون دينار، مقابل 268 مليون دينار للمستوردات، فيما لم تتجاوز الصادرات في عام 2022، في العام الماضي، 70.5 مليون دينار، مقابل 46 مليون دينار المستوردات.
وعدا عن أن كلاً من الأردن وسوريا يمثلان نقطة العبور لِصادرات أخرى إلى الأسواق الإقليمية والدولية، فإن نجاح المبادرة سيعيد زخم تجارة الترانزيت، وسيدفع الجانبين لإعادة النظر بقَوائم السلع المتبادلة بينهما ويسهل دخول المنتجات بالاتجاهين.
“مبادرة مهمة.. صعبة التنفيذ”
في منتصف آذار/ مارس الماضي، أكملت الثورة السورية عامها الثاني عشر، في وقت يكافح أكثر من 13 مليون سوري في بلدان اغترابهم، وسط تراجع دعم المجتمع الدولي للاجئين والدول المستضيفة، وغياب خططه الخاصة بالأزمة. في المقابل ترزح سوريا تحت وطأة العقوبات الدولية والنزاعات الداخلية مع اتساع رقعة التدخّلات الخارجية في شؤونها، إيران وروسيا وتركيا خاصة.
وصلت الأمور إلى الواقع الحالي، نتيجة “وجود اتجاهين دوليين متناقضين للتعامل مع النظام، أسفر عن نكوص الجهود الرامية لحل الأزمة السورية”، بحسب مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، الدكتور زيد عيادات، مشيراً في حديثه لـ”سوريا على طول” إلى أن “واشنطن وحلفاؤها يصرون على أن لا حل من دون تنحي النظام ومحاسبته وعودة اللاجئين إلى سوريا، فيما تسوّق روسيا وإيران وتركيا إلى حلول تخدم الأسد وتطيل بقاءه”.
وأضاف عيادات: “صارت القضية السورية تشبه نظيرتها الفلسطينية، من ناحية القضايا الدولية المفروضة عليها”.
هذا الجمود أدى إلى تنامي قناعة دول عربية، بأن “النظام باق ولا مناص من التعامل معه” وفق عيادات. تجلى ذلك باستقبال عُمان والإمارات للأسد، بالتزامن مع مبادرة أردنية تدعمها كل من لبنان وقطر، فيما أعلنت السعودية بدء مباحثاتها مع دمشق بشأن “استئناف تقديم الخدمات القنصلية”.
ومع أن “الأردن بدا عبر مبادرته كأنه يقول للأسد: على الرغم مما فعلته فإننا مستعدون للتعامل معك والاعتراف بك”، إلا أن “هذا التعامل جاء مشروطاً بتقديم النظام تنازلات وتفاهمات حول قضايا اللاجئين والتدخل الإيراني والروسي وغيرها من الملفات ذات التأثير على عمّان”، بحسب عيادات.
نجاح مبادرة “خطوة مقابل خطوة” مرتهن بقناعة النظام أن من مصلحته تغيير الوضع الحالي المتمثل بـ”انقسام سوريا إلى مناطق محتلة”، على حد وصف عيادات. بعضها تحت سيطرته، فيما “تحتل إيران دمشق وجنوب البلاد، وتسيطر تركيا وروسيا على شمالها وغربها، وإسرائيل على الجولان”.
لكن أيضاً، يتوقف نجاح المبادرة على قوى خارجية، وهو ما يجعل من نجاح المبادرة “صعب”، وفقاً لعيادات، لأن “روسيا وإيران هما من تقرران تحركات الأسد”، ناهيك عن أن “الدولتين القادرتين على حسم الصراع هما أميركا وإسرائيل، ولكنهما غير معنيتين بحسمِه”، على حد قوله.
وعليه، فإن المبادرة الأردنية المدفوعة برغبة عمّان في وقف الضرر الذي يلحق بها جراء استمرار الصراع في دمشق “مهمّة، لكنها صعبة التنفيذ”، برأي عيادات.