عدنان عبد الرزاق,
تصح الخلاصة النهائية لحال سورية والسوريين ربما، إن قلنا إن نظام بشار الأسد سحب يده ودعم حكومته وحتى حماية الدولة من السوريين، وتركهم منذ سنوات لتدبر أمورهم، كلٌ على طريقته، فمن يرَ الحل بالهجرة، فليدفع ويهاجر، ومن يرها ببيع ما تبقى من ممتلكات، فليبع والأخوة الإيرانيون جاهزون للشراء وبالدولار، أما من يرد التعبير عن سخطه ويثور على الواقع، فله بمن ثار وانتفض، أسوة وعبرة، فليس سوى القتل والاعتقال من حلول وسياسة.
بيد أن هذي الخلاصة منقوصة، على الأقل لمن لا يطلع على واقع التفقير والدفع للتهجير وتغيير الديموغرافية السورية.
إذ ثمة فقه خاص تنهجه حكومة الأسد، مبني على الواقعية المقلوبة المنطلقة من شعارات وحكي لا معنى له، قياساً بواقع السوريين الذين “يتسولون حتى الملح” بعد أن ناف الحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة على 4.1 ملايين ليرة ولا يصل الحد الأدنى للأجور إلى 92 ألف ليرة.
ومن ذاك الحكي الذي يدخلك بحالة عدم تعيين، ما قاله رئيس الحكومة، حسين عرنوس في الـ24 من الشهر الماضي تحت قبة مجلس الشعب، كخلاصة للموعودين بآخر بارقة تبقيهم بسورية الأسد: “لا بد من التوجه نحو خيار عملي وواقعي بخصوص أسعار بعض السلع الرئيسية المدعومة، وما يزيد من صعوبات اتخاذ قرارات إعادة هيكلة الدعم هو الفجوة الواسعة والكبيرة جداً بين مستويات أسعار المواد المدعومة من جهة، وتكاليف هذه المواد من جهة أخرى”.
ومن لم يفهم أو يستوعب شيئاَ من آخر تصريح للعرنوس، نردف له تتمة التصريح، علّه يفهم ويُفهم السوريين: “الخطورة حقيقة لا تكمن في الظروف التي نعيشها، بقدر ما تكمن في عدم قدرتنا على رؤية تلك الظروف وتحدياتها والتعامل معها، أو تكمن في رؤيتها ثم إنكارها وتجاهلها، وبالتالي الاستمرار بالسياسات نفسها من دون أي تغيير وكأن شيئاً لم يكن”.
أجزم صعوبة فك طلاسم كلام رئيس الحكومة السورية، خاصة من غير السوريين.
بيد أن ثمة ملامح وعيد مبطّن، يمكن أن يستخلصه السوريون، بحكم التجربة واللدغ من الجحر ذاته، طيلة اثنتي عشرة سنة.
فالإيماء بالتصريح، خاصة بالاستناد لتوقيته، بعد فشل، حتى اجتماع اللجنة المكلفة بتحسين واقع السوريين، يبدو للسوريين واضحاً، فرئيس الحكومة يريد القول، عبر التذاكي والتشكي، إن تكاليف سياسة الدعم تنعكس ضَعفاً في قدرة الدولة على تأمين المشتقات النفطية، ونقص المشتقات النفطية ينعكس نقصاً في توليد الطاقة الكهربائية، وبالتالي نقصاً في الإنتاج، وبالتالي نقص الإنتاج والتصدير يزيد من عوّز الحكومة المكبلّة بشق الدعم بالموازنة العامة.. أي نهاية الاستنتاج، لا تحسين لمستوى المعيشة بل إيغال بسحب ما تبقى من دعم، لبعض السلع والمنتجات والمشتقات النفطية.
علماً، لمن يريد من غير السوريين الاطلاع على الدعم بسورية، فهو يقتصر على منح الأسرة أرغفة خبز محددة لا تزيد حصة الفرد عن خبزتين يومياً وكيلو أرز واحد وكيلو سكر واحد بسعر مدعوم يفوق مرات ومرات، قدرتهم الشرائية، وأما دعم المشتقات النفطية، فهو وهمي بواقع عدم الوفرة وتفشي أسعار السوق السوداء المضاعفة.
وقلنا فقه خبث وواقعية مقلوبة، لأن من يتوعّد بسحب ما تبقى من بقايا دعم، عليه أولاً أن يقارن بمستوى الأجور التي لا تكفي، وفق اعترافات حكومية وبرلمانية، لإنفاق يوم واحد، بعد أن زاد سعر كيلو اللحم عن الراتب الشهري وتعدت نسبة من هم دون خط الفقر، 90%.
ومنه، يعتبر المنطق والواقعية بالتعاطي مع الدعم، تضليلاً إن لم يضع الدخل ووفرة السلع والقدرة الشرائية، بالكفة الثانية من ميزان حكومة الأسد المختلّ.
أما الرد على المسؤول الكبير بالطريقة نفسها، فسهل وواقعي أيضاً.
فمن يتكلم عن تكاليف الإنتاج الحكومي للسلع المدعومة ويمنّ على الشعب المعدم، بكيلو سكر وآخر أرز، عليه أن يقيس بالمسطرة نفسها استجراره محاصيل الفلاحين، فهل سعر كيلو القمح والشعير الذي تستجره حكومة الأسد عنوة، بل والسجن لمن لا يبيعها بالمرصاد، هو السعر العادل أو العالمي للمادتين. هل سعر كيلو البندورة أو الحمضيات، التي تباع من حقول الفلاحين بأقل من أسعار تكاليفها، هي أسعار عادلة؟ هل ما يتقاضاه الموظف السوري شهرياً “نحو 10 دولارات” هو اللقاء العادل أو الواقعي لقوة العمل التي يقدمها؟
وأكثر، هل عيش السوريين بلا كهرباء ولا محروقات، بقيظ الصيف، وحرمانهم حتى من أكل الخبز، وتحويلهم لأوراق رعب، إقليمياً ودولياً، عبر تخويف هجرتهم حيناً وفوبيا الإرهاب بقية الأحايين، من الواقعية بشيء، حتى تقاس عليهم واقعية الدعم ومقارنتها بين التكاليف وسعر المبيع.
نهاية القول: كل ما يجري بسورية اليوم، يوحي بتسارع الانهيار، وربما بلجوء النظام الأبوي الممانع إلى مزيد من تفقير الشعب، عبر سحب الدعم والمضاربة لتهاوي الليرة، سيزيد من تعطيل ما بقي على قيد الإنتاج والتحمّل، فيقلب سحر الفقه على الساحر ليفعل الاقتصاد ما عجزت عنه السياسة، ويبدأ عدّ السوريين التنازلي، بعد زوال صفر أحلامهم وتطلعهم للعيش الآدمي.