وصلتُ أخيراً إلى صالون «سُكّر». لم يكن صعباً العثور عليه وسط كلّ المحلاّت المتلاصقة والمتشابهة، فيافطته الكبيرة ذات الألوان الصاخبة تجذب الأنظار ولو من بعيد. وقفتُ قليلاً أمام الباب وألقيتُ نظرة سريعة على الشارع الضاجّ بالسيّارات والمترجّلين، ثمّ دخلت. عتبةُ باب صالون سُكّر تفصل بين عالمين؛ عالم شاحب باهت وآخر مُشعّ متوهّج. صحيحٌ أنّ الصالون قديم مُتهالك، لكنّ وجوه الزبونات الملوّنة بالماكياج وأصواتهنّ كانت تعلو في المكان.
تتوافد عاملات الجنس على صالون سُكّر بعد السادسة مساء. يُصفّفنَ شعورهنّ ويتمكيجنَ ويُغيّرن ملابسهنّ استعداداً للذهاب إلى أحد ملاهي دمشق. يُطلقنَ العنان لأنفسهنّ ولا شيء يكبح جماح أحاديثهنّ ونقاشاتهنّ. يشعرن بالأمان رغم أنّ فريق صالون سُكّر مكوّن من صِبية في الغالب، ربّما لأنّهم ناعمون وليسوا من الصنف المهووس باستعراض فحولته.
كنتُ جالسة أتفحّصُ المكان والوجوه قبل أن يُقاطعني سامر، صاحب الصالون، ليُعلِمني بأنّ يارا قبلت أن أُجري معها مقابلة. يارا السمراء ذات النظرات الثاقبة تجلس أمامي ببيجامتها الرياضيّة، تُدخّن سيجارتها بِنَهم قبل أن تنطق وتقول: «دولتنا مصاري ونسوان بس». اختصرَت المسافة بيني وبينها وحدَّثتني كثيراً عن حال البلد والظروف، واختزلَت الأوضاع في جملة واحدة هي عُصارة تجربتها وإحباطاتها في الحياة: «بهالبلد إذا معك مصاري بتقتلي قتيل وما حدا بيقلّك شي».
يارا محجّبة من محافظة حماة، تعيش في دمشق منذ طلاقها، تُعين أمها العاجزة وتربي طفلتها. بدأَت العمل في مجال السهر كما الكثيرات، عن طريق صديقة نصحتها بعد تردّي الأوضاع بأن تنزل معها وتُجرّب: «أول مرة نزلت طالعت أجار بيتي». حدّثتني كيف جرّبت الكثير من الأعمال؛ تنظيف البيوت وغيرها، إلا أنها لم تستطع تأمين إيجار منزلها أو حتى أدوية والدتها: «طيب أنا فيني أترك هاد الشغل، وروح أشتغل بمطعم أجلي وأمسح مع بهادل ومذلّة ودوام طول النهار، مشان آخر الأسبوع يعطوني 15 أو 20 ألف (أي حوالي 5 دولار في الأسبوع)؟! إذا اليوم المصروف في سوريا حوالي 50 ألف حق طبخة بتكفي يومين (أي حوالي 12 دولار)».
لا تعمل يارا في الجنس إنما تعمل «بنت طاولة»، أي أنها تذهب إلى إحدى محلات السهر الموجودة بكثرة في جميع مُحافظات سوريا، وخاصة في دمشق وريفها، تجلس على طاولة بالاتفاق مع صاحب المحل. يكون هناك حوالي 20 أو 30 بنت على هذه الطاولات، يجلسن في هذه المطاعم أو النوادي التي تُسمى «عائلية»، وينتظرنَ الزبون.
يأتي الزبون ويجلس على الطاولة ويدفع «دخولية» تتضمن عشاء وربما مشروباً حسب كل مكان وتسعيرته. تلتفّ الطاولات حول مسرح صغير عليه راقصة أو مغني/ة وموسيقيّون، بعدها ينظر الزبون إلى النساء اللواتي يجلسن قبالته ويختار واحدة بغمزة ودعوة معلنة لتنضم له، وتقضي معه عدداً من الساعات يتّفقان عليها مُسبقاً.
يدفع الزبون دخوليّة للمطعم أو النادي تُقدّر بـ 30 ألف ليرة سوريّة (10 دولار)، كما يدفع المبلغ نفسه للمطعم عندما تنضمّ إليه إحدى الفتيات العاملات في المكان، الذي يُعتبر شعبيّاً وأسعاره منخفضة مقارنة بأماكن أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، تتفّق معه على السعر الخاص بها لقضاء الوقت معه مُسبقاً، وعادة ما يتراوح بين 25 ألف و100 ألف ليرة سوريّة تأخذهم لها.
يتمثل عمل «بنت الطاولة» في أن تُسامر الزبون وتضحك له وترقص معه، ويتخلل ذلك الغمرات والقبل واللمسات حسب ما اتّفقا عليه. يدفع الزبون هنا رفقة الكأس، وفي نهاية السهرة ينتهي عمل «بنت الطاولة». يارا تعود لبيتها كل ليلة ولا تذهب مع الزبائن إلى أيّ مكان، تبدل ملابسها، ترتدي حجابها وتأخذ المال الذي أمّنته لتصرفه على عائلتها.
غضبتْ يارا حين سألتُها عن الدولة والمجتمع وكيف يتعاملون معها. قالت إنها لا تخجل من عملها، و«إذا كان على أحد أن يخجل فهو الدولة. بدل أن تلاحقنا فلتؤمن لنا معيشتنا، فلتُعطنا منازل بإيجارات قليلة، وتؤمن لنا وظائف نعيش من رواتبها».
انتهى حديثنا، وبعد ساعات قضيتُها في الصالون رأيتها حين انتهت من جولة التجميل بوجه أصبح شديد البياض وعدسات ملونة وملابس برّاقة. لم تضحك لي يارا كما في المسلسلات؛ لم تتغنج أو تتدلع، بل كانت حازمة وحزينة وغاضبة، تتكلم في السياسة طوال الوقت. تنقل الخاص إلى العام وتفنّده بأسبابه ونتائجه. تتحدّث عن مشاكلها الشخصية وتربطها بالسياسات السيئة التي تتّبعها الدولة، وكيف تجوّع الناس عن طريق اتباع خطط اقتصادية فاشلة، وأيضاً عن طريق الفساد الذي ازداد في السنوات الأخيرة بعد الحرب. كانت غاضبة ممّا يحصل وعاجزة مثلنا جميعاً.
نوادي عائلية!
في يوم آخر كنت قد قابلت مازن، وهو موسيقي تنقّلَ بين العديد من الأماكن مثل الكباريهات والملاهي الليلية والمراقص ويعمل في المهنة منذ 35 عاماً. يحكي لي مازن كيف تُصنّف هذه المحلات وما هي تسعيرتها، وتسعيرة سهرة مع النساء العاملات هناك: «في عدة أنواع من المحلّات هون بسوريا، كل واحد منها مستوى. مثلاً في محل على طريق الربوة اسمه Cloud، وفي كمان Sky stone، بيقصدوه بنات بدهن يعملوا ثروة ومن خلفيات بتساعدهن على تكوين علاقات بهي الأجواء. مثلاً بيجي شب يصاحب وحدة، بيطلع بيسهر معها، وممكن يدفعلها حوالي 500 دولار بالليلة مشان سهرة مو أكتر. وفي أنواع تانية من المحلات هي فينا نعتبرها متوسطة مثل علي بابا، ليالي الشرق، تروبيكانا، الشادروان، سميراميس، الحان، الكروان، تاج بار؛ هون تقريباً سعر السهرة مع بنت حوالي 200 ألف سوري يعني 50 دولار، وفي محلات أقل تكلفة وشعبية أكتر».
90 بالمئة من النوادي والمحلات المكتوب عليها «عائلي» ليست كذلك في الحقيقة، ولا أحد يصطحب أفراد عائلته، لكن الترخيص يُرفَق بكلمة عائلي للتغطية على الأنشطة التي تحصل داخلها وحفظاً لماء وجه الدولة التي تريد أن تبدو مُحافِظة في هذه المسائل على الورق. يقول مازن في هذا السياق: «الجميع يعرف أنّ هذه النوادي ليست عائليّة. موظّفو الدولة يقبضون بنسب متفاوتة لتجهيز الرخصة. كلٌّ حسب مكانته وموقعه. عليك أن تُطعم أفواههم كي تحصل على الرخصة وتفتح النادي الذي سيدرّ عليك أموالاً طائلة».
الواسطة والرشوة هُما حجر الأساس لافتتاح النادي «العائليّ» ثمّ يأتي دور البنات العاملات، حيث يحرص صاحب المحلّ على انتداب قرابة الثلاثين بنتاً، يُعطي بعضهنّ رُخَصَ فنّانات للتمويه من نقابة الفنّانين، التي تعرف جيّداً أنّ هؤلاء الفتيات أو النسوة لن يعملن كمغنيّات أو راقصات. لا أحد من الزبائن الرجال يأتي ليسمع الموسيقى أو الغناء، أو ليسهر ويشاهد الرقص، إنما يأتون لأجل البنات أولاً وأخيراً.
«الجميع يعرف: الدولة، الأمن، والمجتمع، الكل يعرف ما هي هذه الأماكن وماذا يحصل فيها لكن الكل يدفع إتاوات، والجميع مستفيد، حتى دوريات الآداب التي تظهر كل فترة، تأخذ حصتها». يقول مازن.
حدّثني مازن عن ظاهرة لم تكن موجودة بكثرة قبل الحرب، يقول إنها مؤشر واضح لتردي أوضاع الناس الاقتصادية، وهي ظاهرة وقوف الكثير من النساء في بعض الأماكن، قرب فندق أمية مثلاً، أو فندق الشام، أو تحت جسر الثورة أو بجانب موقف الحياة وقرب المول في جرمانا، حيث توْقفنَ السيارات بغرض عرض تقديم بعض الخدمات الجنسية، إما في السيارة أو السينما أو بعض الحدائق أو في البيت حسب الاتفاق. وهنا تطلب النساء سعراً أقل وربما يرضينَ بأي سعر بهدف تأمين القليل من المال لسد الرمق وتأمين بعض الاحتياجات.
اقتصاديات العمل الجنسي
مَن يعرف سوريا يعرف مشكلتها الأبديّة مع الأرقام والإحصائيات. بلد معدوم الأرقام. إذا أردت أن تعرف بعض الأرقام عليك أن تفترض كثيراً وتلتقط من هنا وهناك بعض التصريحات الشحيحة لتصل إلى جزء من الواقع، وهذا ما سنحاول فعله.
آخر إحصائية تمكّنتُ من الوصول إليها كانت في عام 2016، أجراها برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز، حيث يُقدِّر البرنامج وجود 25 ألف عاملة جنس في سوريا. كان عدد سكّان سوريا يُقدّر في ذلك الوقت بحوالي 17.5 مليون نسمة حسب موقع وورلد ميترز. إذاً فنسبة العمل في الجنس في سوريا في تلك الفترة حوالي 0.14%.
حسب إحصائيات الوورلد ميترز، لم يتغير عدد سكان سوريا كثيراً منذ ذلك الوقت، وفي وقت لاحق عام 2021، صرّح مصدر من وزارة العدل لوكالة آسيا الإخبارية أنّ «هناك ارتفاعاً ملحوظاً في شبكات الدعارة بنسبة 60 بالمئة، حيث تم ضبط العديد منها ولا سيما في الفترة الأخيرة»، وبهذا تكون نسبة العمل في الجنس في سوريا قد ارتفعت من 0.14% إلى 0.22%، إذاً نستطيع تقدير عدد عاملات جنس في سوريا لعام 2021 بحوالي 38 ألف عاملة.
تتفاوت أسعار ممارسة الجنس حسب كل فئة، وبحسب الشهادات التي جَمعتُها؛ نستطيع تمييز أربع فئات للعاملات في الجنس في سوريا:
الفئة الأولى وهي قلة قليلة تسعى لتكوين ثروة، وبحسب مازن فإن هذه الفئة ترتاد فقط بعض المحال المُكلِفة جداً، والعاملات هنّ نساء معروفات أو مشهورات يقطنّ في أغلى مناطق دمشق. وفي هذه الحالة يكون هناك مسؤولة عنهن، لكن بعضهنّ يعملن بشكل مُستقلّ. تتنوع الخدمات المقدّمة وتختلف أماكن السهر التي يرتدْنها، كبعض النوادي في الربوة أو ضمن دمشق وريفها أو في اللاذقية وطرطوس. ويبلغ سعر الليلة الواحدة حوالي 1000 دولار، ويتغيّر هذا الرقم حسب الاتّفاق بين عاملة الجنس والزبون وقدرتها على التفاوض والإقناع.
الفئة الثانية هي الأكثر عدداً وانتشاراً، وهنّ العاملات في المطاعم والنوادي الليلية التي تُسمّى عائلية. هنا تكون العلاقة معقدة قليلاً بين العاملات وأصحاب هذه الأماكن، فكل مكان لديه ترتيب خاص به، منهم من لا يتدخل نهائياً في ما قد يحصل مع العاملات خارج المحل، ومنهم من لا يستقبل إلا العاملات اللواتي يقبلن ممارسة الجنس مع زبائنه ويأخذ نسبة عن ذلك. حسب العاملات التي قابلتهنّ، واللواتي يعملن بشكل أساسي ضمن هذه الفئة، يتدرّج ما يقبضنه مقابل قضاء ليلة مع زبون من 50 ألف ليرة سورية إلى حوالي 200 ألف ليرة سورية، وتنتشر هذه المحلاّت بشكل كبير في دمشق وريفها، واللاذقية وطرطوس، وبشكل أقلّ في باقي المحافظات.
الفئة الثالثة هنّ العاملات داخل البيوت والشقق السكنية، وفي هذه الأماكن يرتفع خطر تعرض النساء والقُصّر للاستغلال والتجارة والعبودية الجنسية بشكل كبير، كون هذه الشقق مدعومة بغطاء من أحد المتنفذين مباشرة أو يُدفع لأحدهم مقابل التستر عليها. لم أستطع الوصول لأي من العاملات في الشقق، حيث أكّدت الفتيات اللواتي التقيتهنّ سابقاً في صالون سكّر أن العاملات في الشقق لا يخرجن تقريباً من المنزل. متى ما دخلت الفتاة إلى الشقة فإنها لا تخرج منها، تتقيّد حركتها من قبل القَوّاد المسؤول عنها. ولا توجد أرقام واضحة عمّا يدفعه الزبون في هذه الأماكن، لكن وبحسب الفتيات فإن الأرقام تبدأ من 200 ألف ليرة للساعة الواحدة.
أمّا الفئة الرابعة فهن النساء غير العاملات بشكل فعليّ ودائم في هذا المجال. يشكّل تقديم الخدمات الجنسية مَهربهنّ الوحيد للنجاة بسبب ارتفاع نسبة البطالة والتضخّم الاقتصاديّ، وانعدام الأمان والاستقرار. تقف النساء على الطرقات لتقديم الخدمات الجنسية ومن الصعب جداً حصر الأرقام في ظل عدم وجود نمط واحد يتّبعنه، فربما تكون الخدمات على شكل مداعبة أو مساعدة في الاستمناء وبعض القبل واللمسات، وتُقدَّم في الحدائق أو دور السينما أو سيارة الزبون أو غيرها، حسب الاتفاق. ونطاق الأسعار صعب الحصر، فقد سمعت من اللواتي قابلتهن أن بعض الخدمات تقدم مقابل 5000 ليرة سورية أو 25 ألف ليرة وهكذا.
سأحاول تقدير إيراد هذا العمل خلال عام 2021 عن طريق الأرقام السابقة، وسأعتمدُ بشكل أساسي على الفئة الثانية في مقاربتي، فهي الفئة التي تضم العاملات اللواتي قابلتهن وسمعتُ منهن بشكل مباشر عن تجاربهن والأسعار التي يحصلنَ عليها مقابل عملهن، كما أنّهنّ يشكلن النسبة الأكبر بين جميع الفئات الأخرى. لذا سأحسب متوسط الرقم الذي يحصلون عليه في الليلة الواحدة أي بين 50 ألف ليرة سورية و200 ألف ليرة سورية، وبهذا فالمتوسط هو 125 ألف ليرة سورية أي حوالي 32 دولار.
1.هذا الرقم افتراضي، قدّرناه بالاستناد إلى المعلومات المحدودة المتوافرة، لكنه رغم ذلك يعطي تصوراً عن وضع العمل الجنسي في سوريا
وبحسب تقديرنا السابق لعدد عاملات الجنس في سوريا بحوالي 38 ألف عاملة لعام 2021، وبافتراض أن كل عاملة جنس تحصل على زبونين فقط في اليوم، وتعمل خمسة أيام في الأسبوع، فهذا يعني أن إيراد المهنة يبلغ حوالي 47.5 مليار ليرة سورية في الأسبوع أو حوالي 2.470 ترليون ليرة سورية في السنة. أي 12 مليون دولار في الأسبوع، أو 617 1.مليون دولار لعام 2021، أو ما يوازي 5.6% من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا عام 2020.
من الواضح، وبحسب الأرقام التي سمعتُها، أن هذا العمل وأجواء السهر والسياحة الجنسية له حصة كبيرة من الأموال الموجودة في البلد، لكنه لا يدخل ضمن حسبة اقتصادها. إنه اقتصاد غير معلن تدور فيه الأموال بطريقة غير واضحة، وبحصص فردية وشخصية لا تصبّ بأي شكل في مصلحة البلد أو عموم الناس أو حتى النساء العاملات، إنما تصبّ في مصلحة المستثمرين والمتغاضين والمرتشين والشبكات الإجرامية والجهات الفاعلة في الدولة.
تُصنَّف سوريا اليوم بحسب مؤشر الجريمة المنظمة العالمي لعام 2021 على درجة 8.5 على مقياس 1 إلى 10، وذلك في السوق الإجرامية ضمن قسم الاتجار بالبشر الذي يشمل من ضمن ما يشمله استغلال بغاء الغير أو غيره من أشكال الاستغلال الجنسي أو العمل القسري أو الخدمات القسرية أو العبودية الجنسية.
كشفَ المؤشر أيضاً أن الجهات الفاعلة التابعة للدولة حصلت على درجة 10 كأكثر الجهات الفاعلة الإجرامية في البلد، لتأتي بعدها الشبكات الإجرامية بدرجة 9، ويبرر المؤشر الأرقام بربط الجريمة بالنزاع وكيف يعزز كلٌّ منهما الآخر. ويُضعِف النزاع من قدرة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية على توفير السلع والخدمات، مما يسمح للجهات الفاعلة الإجرامية بملء هذه الفراغات. وفي الوقت نفسه، قد تتشابك الأنشطة الإجرامية التي تدر الربح مع اقتصادات الحرب، مما يسهل استمرار النزاع. لذلك، من نواح كثيرة، ليس من الغريب أن يقع عدد من الدول الهشّة وتلك التي تعاني من النزاع في هذه المستويات.
كما تتذيل سوريا المؤشر في درجة صمودٍ لا تتخطى بمتوسطها 1.88 درجة. ويُعرِّف المؤشر «الصمود» بأنه القدرة على مقاومة الأنشطة الإجرامية المنظّمة وعرقلتها ككل، من خلال التدابير السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية. ويُشير الصمود إلى الإجراءات التي تتخذها الدول من خلال الجهات الفاعلة التابعة لها وغير التابعة لها. ويشمل متوسط الصمود دراسة درجات عدد من الأقسام؛ القيادة السياسية والحكم، وشفافية الحكومة ومُساءلتها، القوانين، العدالة الجنائية والأمن كما يشمل الجوانب الاقتصادية والمالية والمجتمع المدني والحماية الاجتماعية، واحتلّت سوريا رابع أسوأ دولة في العالم من حيث قدرتها على الصمود.
حياتهنّ على الجهة الثانية
تُشبه قصّة أمل إلى حدّ كبير قصّة يارا، فهي أيضاً أم لطفلين ومطلقة، لكن زوجها لم يسمح لها برؤيتهما واشترط عليها أن تدفع له مقابل ذلك. عملت أمل كنادلة في أحد المطاعم، ولكنّ مُرتّبها لم يعد يكفيها لدفع الإيجار وتأمين احتياجاتها الأساسيّة.
وبعكس يارا فإنّ أمل تعمل في الجنس إلى جانب عملها في المطعم كبنت طاولة، وتقول مُجيبةً على سؤالي عن عمليّة المقايضة مع الزبون: «بالسهرة بيكون في عرض وأوقات منطلع مع الرجال، بالغالب منروح على بيته أو على بيت مستأجره أو على أوتيل، منتفق على السعر قبل، وما منتفق على تفاصيل تانية متل الوقت وكم مرة. ما فيكي هون تتشرّطي هيك، بالغالب بيلبسوا واقي (كوندوم) بس كمان مو دائماً، وأوقات بنضَرَب وأوقات بتشاهَد بفكر رح انقتل. ما في شي بيضمن ما يصرلك شي هون أصلاً ما في ولا قانون بيحميكي ولا فيكي تشتكي شو ما عمل».
تقول إنها لا تعمل لدى قوّاد إنما لوحدها، والكثيرات يعملن في هذا المجال لأنهن مضطرات: «القوانين سيئة، ما عم تأمن لنا الدولة شي لا بيوت ولا وظايف. أغلبنا مُطلّقات ما ألنا أهل وما معنا نصرف على حالنا». ورَوَت لي أنها سُجنت مرة واحدة ظُلماً، في الفترة التي قرّرت فيها التوقّف عن العمل لأنّها ارتبطت بطبيب. حيث تم توقيف إحدى زميلاتها بتهمة تعاطي المخدرات وممارسة «الدعارة»، وصودر هاتفها وكان رقم أمل موجوداً فيه. استُدعيت فذَهَبَت، وأوقفوها هي أيضاً، مع أن صديقتها برّأتها، كما برّأها قاضي التحقيق. إلا أن قاضي النيابة حكم عليها بالحبس أربعين يوماً، وقال لها حرفيّاً إن: «أي بنت تقوم بتجميل أسنانها وتهتم بأظافرها فهي تعمل بالضرورة في هذا المجال».
ترفض أمل ترك العمل الجنسيّ خاصّة بعد الذي ذاقته في السجن: «بدهن يحبسونا لأن عم نشتغل هيك؟ أي يجو يعيشونا بالأول، يطعمونا يصرفوا علينا، جايين راكدين ورانا شو شايفين عاجبتنا هي الشغلة، ليه ما بيلحقوا اللّي معهن مصاري الكبار اللّي عم يسرقوا. بالسجن في بنات الهن 12 أو 13 سنة لهلق مو محكومين شفتهن بسجن عدرا. منهن كانوا من وقت المظاهرات وقالوا أنو تهمتهن إرهاب، ولهلق مو حاكمينهن بس تاركينهن هيك».
ولسبب مختلف دخلت حنان هذا العمل، فبالنسبة لها إنّ التشدد الزائد يخلق نفوراً. حَجَّبتها والدتها رُغماً عنها في سنّ صغيرة: «الأهل هنن اللّي بخلو البنت تجي ع هيك جو، التشدد الزايد، الحجاب غصب عنها، القمع الي نحنا عايشين فيه، لا طلعة لا فوتة. ممنوع حتى تشوفي ابن خالتك أو ابن عمتك. هاد الشي خلاني أهرب من البيت أكتر من مرة. أنا من حلب وكنا عايشين بالشام كان عمري 14 سنة بوقتها، ولأني قاصر رجعوني. طبعاً صار بدهن يفحصوني لأن هاد كان همّهن الوحيد، ويتطمنوا على غشاء البكارة، أمي ما كانت متشددة كتير بس بعد ما مات أبي تجوزت واحد كتير متشدد وصار يعلّمها القمع، فصارت تخليني ألبس عباية».
تتذكر حنان خطيبها السابق الذي عنّفها وخانها مع شقيقتها، لكن كل ذلك لم يشفع لها أمام عائلتها لتركه، فوالدتها تقول إن «الرجّال ما بيعيبوا شي»، المهم السترة والزواج. لذا تركته وتركت المنزل وهي لا تتجاوز سنّ الـ 18.
عملَتْ بداية كبنت طاولة، وتَعرَّضَت للاغتصاب بعد سنة فقط من هروبها من المنزل. تقول مُحدّثتي: «تعرفت على وحدة بطرطوس ضحكت عليي، وبعد ما عرفت إني عذراء عرضتني كهدية لشخص. طبعاً هوي حدا ألو أسمو بالبلد وبالجيش، وأنا كنت كتير خايفة منو. أخدتني لعندو وبعدين تركتنا وراحت، ونادالي هوي على الغرفة وما كان فيي قلو شي كنت خايفة منو. أصلاً كنت مرعوبة قلو أي شي، وصار اللّي صار».
ومن وقتها بدأت حنان العمل في الجنس. تحسّنَ وضعها الماديّ وصارت تَصرِف على عائلتها المُتشدّدة التي لم يعد يهمّها طريقة عيش ابنتها طالما أنّها تُعطيهم مبلغاً شهرياً. وكما أمل، تخاف حنان كثيراً: «بخاف أطلع، كتير أوقات بتشاهد ع روحي لأن في بنات كتير انقتلت أو أخدو أعضائها أو صوروها. طبعاً ما في احتياطات لأن ما في شي بيضمنك، الدولة ما بتساعدك إذا استنجدتي فيها، لأن بيمسكوكي وبيحبسوكي إلك، لمين بدك تشتكي إذا صرلك شي».
أخيراً، تذكر التناقض الكبير الذي تعيشه الدولة في هذا المجال، فما تصفه الدولة بالفساد مثل العمل الجنسي تأتي موافقاته منها؛ كل الموافقات الخاصة بتراخيص المحلات. كما أن نقابة الفنانين هي من تُعطي رخصة فنانة لأغلب الفتيات، وأكبر مفارقة كما ذكرت أن الضباط والمسؤولين يسهرون مع البنات في الليل ويحاربونهنّ في النهار.
القانون كيف يعمل؟
سنة 1933 في فترة الاحتلال الفرنسي، صدرَ قانون تنظيم البغاء الذي سمحَ بمزاولة المهنة وترخيصها ضمن شروط صحية وقانونية معينة، مثل شرط تسجيل المرأة نفسها في سجلّ الشرطة. تحصل على دفتر صحي وتُفحص مرتين أسبوعياً، كما يشترط أن تمارس مهنتها في دار مخصصة «للبغاء» لا في الفنادق والمنازل. وكانت الدولة تستوفي رسوماً من هذه الدُور.
بقي هذا القانون فعالاً حتى عام 1961، وجَرَّمَ قانون العقوبات العام الصادر سنة 1949 الدعارة السرية غير المرخصة، ولم يُلغِ المُرخّصة منها. لم يتغير الحال إلى فترة الوحدة بين سوريا ومصر، حيث انضمت الجمهورية المتحدة إلى اتفاقية مكافحة الاتجار بالأشخاص، وأُصدر القانون رقم 10 لسنة 1961 المُسمّى «قانون مكافحة الدعارة» الذي ألغى قانون تنظيم البغاء بشكل نهائي، وعاقب «كل من اعتاد ممارسة الفجور أو الدعارة» حسب المادة رقم 9، بالحبس لمدة تتراوح بين ثلاثة أشهر لثلاثة سنوات وغرامة مالية، كما جرّم كل من يعاون ويحرض ويستدرج ويغوي أنثى أو ذكراً لهذا العمل، كما جرّم فتح دار أو مكان لممارسة «البغاء».
وفي كل المواد الخاصة بالقانون رقم 10 تطلق تسميات «الفجور والدعارة» على هذا المجال. يروي لي أحد المحامين الذين قابلتهم أن صدور هذا القانون لم يخفف من المشكلة ولم يكافحها فعلياً، حيث أن أعداد النساء العاملات ازدادت بسبب سوء الوضع الاقتصادي، وتحولت هذه الشبكات إلى شبكات سرية، مما ساهم في استغلال النساء وترهيبهنّ بشكل أكبر. حتى النساء العاملات في هذا المجال ذكرن خلال المقابلات التي أجريتُها معهنّ أن الوضع الاقتصادي المتردي في البلد اليوم يدفع العديد منهن لهذا العمل، لكن لا يوجد أي مادة قانونية تحميهن، وأن المسيطر الوحيد على هذه الشبكات وهذه الأجواء هم المتنفّذون في البلاد.
القانون الأخير الصادر في هذا الشأن هو المرسوم التشريعي رقم 3 لعام 2010: «منع ومكافحة الإتجار بالأشخاص»، حيث شدّد العقوبات على المتاجرين بالبشر خاصة حين يكون الضحايا من النساء والأطفال، وتكلّم عن عدم الاعتداد بموافقة الضحية تحت أغلب الظروف، لكنه لم يجرِّم الرجال بشكل واضح ومباشر إنما ذكر ذلك بمادة خجولة في المادة رقم 9: «يُعاقب من علم بواقعة الاتجار وانتفع مادياً أو معنوياً من خدمات الضحية».
ثمة الكثير من الغموض والتشويش بشأن هذا المرسوم، إلى درجة أن المحامييَن اللذين استفسرتُ منهما ذكرا لي أنه مرسومٌ نافذٌ لكنه لا يُطبّق إلا بشكل نادر، واشتركا في تبرير ذلك بأن القضاة لم يفهموه فعلياً لأن نصه غير واضح بالنسبة لهم. إلى جانب أنه لم يُلغِ القانونَ السابقَ حين صدوره. كما أكّدا ضرورة أن يَلي تشريع القانون تدريبات للقضاة والشرطة، لكن كل ذلك توقف بسبب الحرب. لذلك ما زال يُعتَمَد على القانون رقم 10 لعام 1961 حتى اليوم ويؤخذ بمواده، كما لا يُعاقَب أي من الزبائن الرجال حين القبض على الشبكات، حيث أن اجتهاد محكمة النقض لا يعاقب الرجل على استخدامه وشرائه لهذه الخدمات.
يشرح أحد المحامين أن الفساد هو سببٌ رئيسي في عدم تطبيق القانون، فالمعنيّون بإنفاذ القانون يرتشون، وربما تكون سلطة الشخص الذي يدير الشبكة أو المكان أعلى من الشرطة، ما يساهم في غض النظر عنهم، مع العلم أن مكافحة العمل الجنسي أصلاً أمرٌ صعبٌ لأنه يُمارس بشكل سري وملتبِس مع سلوك يكون بعضه غير مجرّم قانونياً، يضيف: «ربما يكون إعادة ترخيص العمل الجنسي حلّاً أكثر نجاعة من الطريقة التي تتعامل السلطات معه اليوم»
بحسب المؤشرات الموجودة، فقد ساعدت القوانين المتشددة والمتعثرة على توسع المهنة ونموها في الظل والخفاء، ما سمح باستغلالٍ أكبر للنساء العاملات في هذا المجال، فمنذ إصدار «قانون مكافحة الدعارة» لسنة 1961 الذي جرَّم النساء العاملات، لم تُحل المشكلة إنما تفاقمت، وأصبحت قطاعاً استثمارياً سرّياً ضخماً يحتكره المتنفذون والمسؤولون وغيرهم من المقربين من دوائر الحكم. في فترة الحرب أصبح العمل الجنسي وسيلة للبقاء بالنسبة لنساء كثيرات. تسعى النسبة الأكبر من عاملات الجنس إلى تأمين حياة أسرهن وأطفالهن، خاصة أن أي عمل لا يتخلّله الفساد أو السرقة أو العمل مع المنظمات الدولية في سوريا اليوم، لا يكفي الشخص لتأمين احتياجاته الأساسية، فمعدل الرواتب الحكومية يتراوح بين 250 ألف ليرة سوري (أي حوالي 46 دولار شهرياً) لموظف حاصل على شهادة دكتوراه، وأقل فئة دون شهادة أو أقل من شهادة إعدادية تحصل على 75 ألف ليرة سورية (أي حوالي 16 دولارشهرياً) وذلك بالعودة لسلّم الرواتب اليوم بعد الزيادات.
لا تستطيع عاملات الجنس الذهاب للشكوى إذا اعتدى عليهنّ أحد، أو حتى الحصول على الخدمات الصحية التي يحتجنها، كما لا تنظر هذه القوانين في احتياجات النساء التي تدفعهنّ للعمل، إنما غُيِّبَ العامل الاقتصادي وقُدِّمَ عليه الفزَعُ الأخلاقي للحفاظ على هيبة الدولة والمجتمع السوري المتدين والمحافظ.
عاملات الجنس في سوريا: حكايات تُعرّي المجتمع والسلطةفي النهار خدمةً لمصالح هؤلاء المتنفذين.
يارا وأمل وحنان، ثلاث نساء دفعتهنّ الأوضاع الاقتصاديّة المُترديّة إلى الانخراط في العمل الجنسيّ. يعشنَ في دولة يُسيّرها المُخبرون والقوّادون والمُرتشون والظالمون والمتملّقون والشبيحة. هنّ في نظر القانون مُجرمات خطيرات، وفي نظر المجتمع «عاهرات» أبديّات. يعرفنَ حقّ المعرفة بأنّ لا شيء قد يتغيّر، ومع ذلك شاركنني حكاياتهنّ بكرم وسخاء. يارا وأمل ووحنان، في المحرقة كما نحن. محرقة هذا الوطن وكلّ الأوطان.
المصدر
سلمى صالح