د. جمال الشوفي
للرقم “أربعين” معان صحية ونفسية في موروثنا الأهلي الشرقي، فهو عدد الأيام التي تشير لنهاية الحزن بعد فقد عزيز، وهو ذات العدد الذي يشير إلى تعافي الأم بعد الولادة، وبداية التغييرات الطارئة على المولود الجديد وتجاوزه مرحلة الخطر وشق طريقه للمستقبل. وها هي الموجة الثورية السورية الثانية تتجاوز عمر الأربعين من مولودها الجديد في ساحة الكرامة في السويداء، وتبدأ تخطو بثبات تجاه المستقبل، وعلّه مستقبلًا سوريًا يليق بأبنائنا كما يستحقون أن يكونوا.
في الموجة الثانية للثورة السورية تفتحت وأزهرت مواهب شباب وسيدات سورية، فقد اكتظت ساحة الكرامة بالآلاف منهم فاق العشرة آلاف. نساء زينن رؤوسهن بأكاليل من أغصان الزيتون، لم يلبسن دروع الحرب ولا خوذ القتال ولا أكاليل الغار، بل لبسن الزيتون تعبيرًا عن السلام والعطاء والشجر دائم الاخضرار. وكأنها تعويذة أمل في تحقيق السلام وعودة هذه البلاد لديمومة الاخضرار بعد طول جفاف وقحط سياسي. وشبابها لم يحملوا الروسيات والرشاشات والمدافع، بل حملوا مقومات التاريخ والحضارة التي عاشتها المنطقة بثقافتهم المتسعة. استعرضوا المسرح الروماني وحواراته ومثلوا تعاقب الحضارات على هذه المنطقة، ليبقى الشعب السوري بثقافته العريقة يقدم لونه للحضارات الإنسانية سلامًا ومحبةً وحياة. ابتكروا مهرجانًا لفرقة رومانية، وفي مقدمتها زنوبيا تقول: آن للسلام والحرية أن تعم هذه الأرض، وتنادي بوقف نهب ما تبقى من آثارها الحضارية على أيدي سلطات الفساد والاستبداد والأجهزة الأمنية. فيما حمل المتظاهرون لوحة صغيرة لخريطة سورية كتب عليها حرية علقت ناحية القلب، قالت عنها إحدى السيدات المساهمات بالمبادرة، أنها الكلمة التي يتفق عليها كل السوريين وتجمعهم حولها بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية معارضة أو موالية، فالجميع يبحث عن الحرية. وأرفقوها ببطاقة حمراء كتب عليها: Out، دلالة على طلب خروج الاحتلالات من سورية وخروج الفساد وسلطة الاستبداد من حياتنا، فليرحل من جلب الغزاة وعمل على تدمير سوريا.
في الموجة الثانية وهي تتقدم نحو شهرها الثالث، وفي جمعتها السابعة، أقامت ساحة الكرامة حفل عزاء سوري على أروح السوريين كلهم بدءًا من 18 آذار 2013 للآن، خاصة بعد الجريمة المفتعلة في الكلية الحربية بحمص، وما تلاها من قصف جوي روسي بالتعاون مع سلطة النظام على أبناء إدلب المدنيين الذي يذهب ضحيته مئات السوريين في كل مرة. وكان العنوان سورياً بامتياز: ألبس الأسود واحمل قلبك الأبيض والملتقى ساحة الكرامة. من هناك يمكنك أن تساهم بالتغيير السياسي ووقف المقتلة السورية لكل السوريين.
هذا المسرح الواسع الذي تنوعت فيه ثقافات السوريين وإبداعاتهم الفنية والفكرية، مستمر بخطه السياسي العام الواضح والعلني للعالم والداخل السوري، فشعار المتظاهرين من كل الفئات والأعمار: هو التغيير السياسي، ومفتاحه الحل السلمي والسياسي، بلا عنف وإرادة منتصر حرب زائفة. تفند خطوطه العامة لافتة كبيرة تعدد بنوده حسب نص القرار 2254/2015 فأولًا: المرحلة الانتقالية، وثانيًا: حكومة وطنية مؤقتة، وثالثًا: انتخاب لجنة تأسيسية لصياغة دستور سوري جديد، ورابعًا: إجراء انتخابات حرة وديموقراطية، والإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين قسريًا ملفات إنسانية فوق سياسية.
أفصحت تظاهرات السوريين المتتالية في ساحة الكرامة سلسلة الأخطاء المتعمدة بحق الشعب السوري الذي يمارسها المبعوث الأممي، غير بيدرسون، بإصراره على عمل اللجنة الدستورية قبل تحقيق الانتقال السياسي، وتجاهله لمجريات الحدث السوري الحالي في إحاطته المقدمة للأمين العام للأمم المتحدة أواخر أيلول المنصرم، وكأنه شريك لسلطة النظام السوري في هذا التجاهل والاستمرار في الكارثة السورية إلى ما لا نهاية. وأية مهزلة سياسية يمكن الحديث عنها حين يكون استمرار الكارثة السورية هو استمرار لأمراء الحرب وسلطات الأمر الواقع وبقاء بيدرسون في منصبه يتقاضى راتبه على حساب الحل السوري!
في ساحة الكرامة تعدد الممثلون والمسرح واحد، اختلفت النصوص والصوت واحد، وبدأت تخطو ساحة الكرامة بهدوء وثبات ناحية استحقاق دهشة الجمهور المحلي والعربي والعالمي. تغيرت الخلفية من صور القائد الخالد الأوحد ورموز البعث والسلطة الأبديين إلى صور السوريين من رجال الثورة السورية الكبرى، وصور المعتقلين وضحايا حرب السلطة على المجتمع. تبدلت الأدوار من جمهور مصفق ومهلل، سواء كان بعضهم مجبرًا وكارهًا أو منتفعًا بمناصب بخسة بإرادته، يرزخ ويدبك على وقع موسيقا الحرب التي تروجها سلطة البعث العسكرية، إلى أصوات حرة متناغمة متعددة المواهب والألحان متمايلة على لحن: موطني… وما أقسى أن تنفجر الصدور حبًا بعد قمع وقهر، فهو موطني، موطننا نحن، الأرض والسماء والتاريخ والحضارة… وتنفتح مقل العيون وتنفجر دمعًا…
هي خطوة ثابتة تجاه استحقاق الحرية والدولة العصرية، ينفتح فيها المسرح السوري على موجات جديدة ومطورة من إمكانية استعادة الشعوب لقرارها السيادي، واستبدال نموذجها العام من فوضى وحمى حرب وعنف، إلى دوائر تتسع من القدرة والاستحقاق والفاعلية بلحظة زمنية فارقة عنوانها كسر طريق الانحدار المستمر منذ 2018، واستعادة زمام المبادرة باتجاه المشروع الوطني والهوية الوطنية. فالقلوب البيضاء وأغصان الزيتون والحزن البادي من ساحة الكرامة جميعها تشير إلى أن بواكير عقلانية ورؤية بصيرة تشق طريقها بثبات وإن كانت المعيقات لليوم كبيرة بحجم وطن بكل كوارثه الجسام.