سونيا العلي ــ إدلب,
ما إن تنخفض درجات الحرارة وتنقضي صلاة العصر حتى يجتمع الصديقان الجاران عبد الله الأسعد (66 سنة) وعمران البركات (64 سنة) تحت ظل شجرة الزيتون القريبة من مخيم الضياء، بمنطقة حارم شمالي إدلب، حيث يقطنا، بهدف لعب لعبة المنقلة الشعبية التراثية. وتصنع اللعبة من ألواح خشبية، وبها تجويفات صغيرة يستخدم فيها الحصى، وتعتمد على حسابات رياضية دقيقة يترتب عليها تحركات اللاعب، ومن ثم حساب الربح والخسارة أمام منافسه الآخر.
فترة اللعب لا تخلو من تبادل الأحاديث وتناول الشاي. بعدها، يتوافد رجال من المخيم بهدف الاستمتاع باللعبة وتشجيع المتنافسين، في أجواء حماسية يغلب عليها المرح. ويقول الأسعد لـ “العربي الجديد”، وهو ينقل الحصى التي ربحها من يد إلى أخرى للدلالة على تفوقه على خصمه: “نزحت مع زوجتي من مدينة سراقب (محافظة إدلب) بداية عام 2020 إلى أطمة التي تفتقد كل مقومات الحياة. وتفرق أولادي الأربعة داخل البلاد وخارجها. أجد في هذه اللعبة وسيلتي الوحيدة للتسلية والترفيه عن النفس”. يضيف: “لولا صديقي عمران وهذه اللعبة لأصبت بالجنون. من خلالها، نحاول أن نتناسى معاناتنا، ونكسر عزلتنا في المخيم البائس”.
ويجد الكثير من كبار السن ومصابي الحرب والنازحين في لعبة المنقلة الشعبية وسيلة للتسلية والترويح عن النفس، في ظل العزلة الاجتماعية، وحياة النزوح، وقلة فرص العمل، وانقطاع التيار الكهربائي، وغياب وسائل الترفيه الأخرى.
ويشرح الأسعد آلية اللعبة بالقول: “المنقلة هي إحدى الألعاب التي تحظى بشعبية كبيرة في الشمال السوري، وخصوصاً بين كبار السن والمتقاعدين. وسميت بالمنقلة بسبب نقل الحجر من حفرة إلى أخرى على لوح خشبي. وتتطلب قدرة على العد بسرعة”.
لا يخلو اللعب من تبادل الأحاديث وتناول الشاي (العربي الجديد)
ومن أصول اللعبة، بحسب الأسعد، أن يجلس لاعبان في مقابل بعضهما البعض، على أن تفصل المنقلة بينهما. والفائز هو من يجمع أكبر عدد من الحجارة”. ويشير إلى أن اللعبة تتطلب ذكاء. فحين يكون دور اللاعب المنافس للعب، يعمد الآخر إلى عد الحبات في كل حفرة من الحفر، ليتمكن من معرفة الحفر التي سيبدأ بتوزيع الحصى عليها من أجل الربح”.
من جهته، يقول حسن الطعمة (35 عاماً)، النازح من مدينة معرة النعمان (جنوب محافظة إدلب) إلى بلدة أطمة الحدودية مع تركيا، إنه غالباً ما يكون حاضراً خلال جلسات اللعب بالمنقلة في المخيم. ويحاول تعلّمها لتمضية الوقت، ومحاولة عدم التفكير في الظروف الصعبة التي يعيشها بسبب إصابته من جهة، وقلة فرص العمل من جهة أخرى.
يضيف: “بعدما أصبت في قدمي من جراء الحرب، لم أعد قادراً على العمل. أقضي معظم الوقت في المخيم. لذلك، أجد في جلسات اللعب بالمنقلة فرصة للتواصل مع الآخرين والتسلية، والابتعاد عن الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي”.
يلجأ كبار السن إلى لعب المنقلة للتسلية (العربي الجديد)
بدورها، تقول سلمى عبد الجواد (33 عاماً) من مدينة إدلب، إنها تشجع أطفالها الثلاثة على تعلم لعبة المنقلة من والدهم، للابتعاد قليلاً عن الشاشات، وخصوصاً في أيام العطل. وعن أهمية هذه اللعبة، توضح أنها تساهم في تطوير مهارات الحساب والتركيز والذاكرة، على عكس الألعاب الإلكترونية التي لها آثار سلبية على الأطفال والمراهقين، وتجعلهم أكثر ميلاً إلى العزلة والعنف والخمول، وتفقدهم القدرة على التفكير السليم”.
وتحتفظ ذاكرة كبار السن بالجلسات الطويلة التي كانوا يلعبون خلالها المنقلة في شبابهم. ويقول عبد الله الديوب (70 عاماً) إنه لم يلعب المنقلة منذ نزوحه من قرية معصران بريف إدلب الجنوبي. وعن السبب، يوضح: “في القرية، كنت أجتمع مع أصدقائي وأقاربي في حديقة منزلي للعب المنقلة في الصباح وسهرات المساء. خلالها، نتحدى بعضنا البعض. كنت أتجنب الخسارة وأحافظ على الصدارة. لكن بعد النزوح، تفرق الأصدقاء”. يضيف: “لم يعد لدي أي أمل بالعودة إلى قريتي ومنزلي، أو حتى وداع الأصدقاء والأحباب قبل أن أفارق الحياة”.
هكذا، يلجأ الكثير من كبار السن والذين يعجزون عن الخروج من خيامهم إلا نادراً، نتيجة تعرضهم للإصابات أو غير ذلك، للعب المنقلة لتعزيز التواصل فيما بينهم، والتسلية، ومحاولة التخفيف من وطأة النزوح والحرب.
ودأبت المؤسسات الثقافية المعنية بحفظ التراث في شمال سورية على تعريف الجيل الجديد بالموروث المادي والحضاري للمنطقة، عبر إحياء الألعاب التراثية، ومن بينها لعبة المنقلة، وتخصيص بطولات خاصة بها. كما تشهد مدن وبلدات الرقة والحسكة بطولات خاصة باللعبة كطقس سنوي. وقبل الحرب، كانت تقام بطولات موسمية على مستوى البلاد.