نشرت مجلة “ناشونال إنترست” (The National Interest) الأميركية مقالا لمدير تحريرها آدم لامون دعا فيه الولايات المتحدة إلى تبني إستراتيجية جديدة تجاه سوريا والتخلي عن مساعيها لتحقيق أهداف وصفها بالغامضة وغير القابلة للتحقيق.
ويزعم الكاتب أن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يكن يوما مولعا بالحرب في سوريا، ومع ذلك فإن انسحابه منها ليس أمرا محتوما، بل ربما قد يعمل على تعزيز وجوده هناك.
ورغم نفوره من شن “غزوات خارجية” فإن بايدن طالما سخر من قرار سلفه دونالد ترامب في عام 2019 بنفض يده عن الأزمة السورية، واصفا القرار بأنه “متهور” و”غادر”.
ووفقا للمقال، فإن بايدن لم يكن يشعر بالارتياح لخروج الولايات المتحدة من سوريا، معتبرا أنها بذلك “خانت” حلفاءها الأكراد ومنحت تنظيم الدولة الإسلامية “حياة جديدة”.
ومما لا شك فيه أن الأكراد وتنظيم الدولة -إلى جانب الكارثة الإنسانية في سوريا- ظلوا هواجس تؤرق بايدن، ففي مقابلة أجرتها معه صحيفة “وول ستريت جورنال” (The Wall Street Journal) عام 2019 أكد الرئيس الأميركي أن الإبقاء على قوة عسكرية صغيرة في سوريا لحماية الأكراد “يبدو منطقيا تماما”.
مراجعة فورية
ويعتقد كاتب المقال أنه يتحتم على إدارة بايدن أن تجري “بحزم” تقييما لإستراتيجيتها في سوريا للتأكد من أنها تخدم المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، فإن لم تكن سياستها هناك تحقق الغاية منها فلا بد عندئذ من مراجعتها على الفور بغية تهيئة الظروف لخروج أميركي “مشرّف”.
وغير ذلك -يضيف الكاتب- سيجعل السوريين وحلفاء أميركا في وضع حرج ما إن يقرر بايدن -أو أي رئيس أميركي في المستقبل- إنهاء ما قد أصبحت حتما “حربا أبدية” أخرى تخوضها الولايات المتحدة.
وبدأ تدخل أميركا بجدية في سوريا عام 2013، أي بعد سنتين من بدء الرئيس بشار الأسد حملته القمعية على المحتجين، مما أدى إلى نشوب حرب أهلية في البلاد.
ورغم أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي إيه” (CIA) كانت منخرطة منذ عام 2012 في إسداء المشورة لحلفائها في الشرق الأوسط حول كيفية دعم المتمردين السوريين فإن الرئيس الأسبق باراك أوباما أحجم عن التدخل المباشر خوفا من تمدد نطاق المهمة العسكرية وتسليح “الإرهابيين” عن غير عمد.
وقد حققت عملية “تيمبر سيكامور” نجاحا من الناحية التكتيكية، وتمكنت القوات المدعومة من الـ”سي آي إيه” من السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي السورية، حتى أن المعارضة باتت تهدد بشكل خطير معاقل الطائفة العلوية على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، بل ودمشق نفسها.
وأثارت تلك التطورات انتباه كل من أعداء الأسد وحلفائه على حد سواء، فكان أن أرسلت طهران قائد الحرس الثوري آنذاك قاسم سليماني إلى موسكو حاملا معه إستراتيجية لإنقاذ بشار الأسد، فيما جاء رد الروس في شكل تدخل عسكري واسع النطاق في سوريا.
ولم تكتف روسيا بإنقاذ دمشق من الهزيمة فحسب، بل عملت على تعزيز وجودها العسكري المتقدم عبر إبرام عدد من الاتفاقيات الدائمة مع نظام الأسد، مما أثار احتجاجات متكررة من الدول الغربية على النفوذ الروسي “الخبيث” في سوريا، وما بدا أنه “انتصار تكتيكي” انتهى إلى “فشل إستراتيجي”.
وأوضح مقال ناشونال إنترست أن واشنطن عقدت شراكة مع السوريين الذين كانوا يقاتلون تنظيم الدولة، حيث شرعت وزارة الدفاع الأميركية في دعم المقاتلين الأكراد والعرب الذين شكلوا معا بعد ذلك قوات سوريا الديمقراطية.
على أن الدعم الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية تسبب “دون قصد” في مواجهة مع تركيا التي تنظر إلى وحدات حماية الشعب الانفصالية على أنها تشكل تهديدا شديدا لوحدة أراضيها وأمنها القومي.
انزعاج تركي
وبحسب لامون، فقد سعى أوباما طوال فترة حكمه دون جدوى إلى تغيير النظام في سوريا من خلال تأييده عملية سياسية متعثرة تدعمها الأمم المتحدة وتعتمد على معاقبة الحكومة والتحريض “الفاتر” على المقاومة المسلحة.
وبعد أن ورث من أوباما سياسة “مرتبكة” آثر دونالد ترامب المواصلة والتغيير في سوريا بأن جعل تنظيم الدولة محور اهتمام السياسة الأميركية في أحد جوانبها بقصد انتشال الولايات المتحدة من وحل الصراع هناك، لكنه -من ناحية أخرى- كاد يميل إلى تغيير النظام حينما أمر الجيش الأميركي بضرب قاعدة عسكرية سورية، وفكر في اغتيال بشار الأسد لاستخدامه أسلحة كيميائية مرة أخرى في ربيع عام 2017.
3 أهداف
ومضى مقال ناشونال إنترست في تناول سياسة بايدن تجاه سوريا، مشيرا إلى أن الرئيس الأميركي ربما يسعى إلى تحقيق 3 أهداف تتمثل في تخفيف وطأة المعاناة الإنسانية، وحسم مصير الأكراد، وإلحاق الهزيمة نهائيا بتنظيم الدولة.
وإذا تمسكت إدارة بايدن بسياسة أسلافه القائمة على تغيير النظام عن طريق العقوبات وعزل سوريا فإنها لن تنجح في حل تلك المشاكل العويصة فعلا، ولن يتسنى للولايات المتحدة الخروج من تلك البلاد.
ويمكن لبايدن -رغم ذلك- خلق ظروف مواتية تسمح بخروج “مسؤول” من سوريا والإسهاب في تناول ما تعلمه من دروس من الحرب الأميركية في أفغانستان، ولا سيما أهمية تحاشي شن “عمليات عسكرية كبيرة لإعادة صياغة الدول الأخرى”، و”تحديد المهام بأهداف جلية وقابلة للتحقيق، وليست أهدافا يتعذر علينا إدراكها إطلاقا”.
وأشار كاتب المقال إلى أن بايدن كان محقا عندما ذكر أن حقبة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول أجبرت الأميركيين على الإقرار بأن هناك حدودا فعلية لما يمكن للقوة الأميركية بلوغه، وعليه الآن أن يذهب أبعد من ذلك بالاعتراف بأنه لا يمكن عمليا للأميركيين تحويل سوريا إلى البلد الذي يريدون، وعليه، لا بد أن تكف السياسة الأميركية عن السعي لتحقيق أهداف غامضة غير قابلة للتحقيق.
استغلال الديناميات الإقليمية
ولذلك، يتعين على الولايات المتحدة صياغة إستراتيجية جديدة أكثر تركيزا تجاه سوريا واستغلال الديناميات (القوى المحركة) الإقليمية الناشئة في الشرق الأوسط، وتحقيق ما يمكن تحقيقه بالحد من المعاناة الإنسانية، واستئصال شأفة تنظيم الدولة، وضمان استمرارية دعم الأكراد، والتصدي لإيران.
ولعل النهوض بنموذج من هذا القبيل لن يكون بالأمر السهل، لكنه يبدأ بالنسبة لبايدن بخطوة واحدة وهي التفاوض المباشر مع نظام الأسد في دمشق، على حد تعبير كاتب المقال.
إذابة الجليد
ومثلما تفاوض أوباما مع إيران وسعى ترامب للوفاق مع كوريا الشمالية فإن على بايدن أيضا إذابة جليد العلاقات مع دمشق، وكما ذكر الباحث ستيفن والت فإن ما يدعو لذلك -في المقام الأول- أن “الأسد يعد مفتاحا لحل المشاكل المستعصية المتمثلة في خطر تنظيم الدولة، والوجود العسكري الإيراني في سوريا، والعدوان التركي على الأكراد”، وكلها مشاكل -كما يزعم آدم لامون في مقاله- لن تدوم طويلا في ظل نظام مستقر وآمن بقيادة بشار الأسد.
وستكون إسرائيل والأكراد وتركيا كذلك في وجود الأسد على رأس السلطة في حال أفضل مما لو ظل محاصرا، وفي ظل تعاظم نفوذ إيران ووكلائها في سوريا مع تضعضع سلطة الأسد فإن إسرائيل قد تحبذ على الأرجح العودة إلى الوضع القائم بدل الحرب الأهلية عندما كان بشار -وليس الحرس الثوري الإيراني- هو الذي يدير الاحتكاكات معها في هضبة الجولان وغيرها من مناطق البلاد.
ويواصل مدير تحرير ناشونال إنترست تحليله فيقول إن ما ينبغي على الولايات المتحدة في المرة القادمة هو السماح لبشار الأسد باسترداد المناطق التي فقدها أثناء الحرب الأهلية، وبتدفق المساعدات اللازمة لإعادة إعمار سوريا مقابل تنازلات سياسية “محدودة، وإن كانت مؤثرة”.
وفي كل الأحوال، ثمة إشارات تنطلق من واشنطن وبعض العواصم في الشرق الأوسط توحي أن تحولا في السياسات لا يرتبط بالتبعية لبايدن، وهو تحول قد بدأ بالفعل أو في طور التخطيط له.
ويخلص مدير تحرير المجلة إلى التأكيد على أن سياسة أميركية جديدة تتيح عودة سوريا إلى الحظيرة الإقليمية لا تتطلب من الولايات المتحدة إنفاق أموالها في إعادة بنائها، كما لا تهدف إلى “مكافأة” الأسد على سلوكه “الوحشي” طوال العقد الماضي، بل ترمي إلى جعل واشنطن تختار الفائزين والخاسرين في الشرق الأوسط.
وإذا ما أُرغمت الولايات المتحدة على أن تختار بين دولة سورية ضعيفة تستغلها إيران في شن حرب على إسرائيل وحلفاء أميركا في منطقة الخليج وبين دولة سورية مزدهرة تجنح إلى تحقيق توازن بين مصالح الأطراف الإقليمية وتكون مهيأة لعودة اللاجئين السوريين إليها فإن ذلك لا شك سيكون خيارا سهلا لواشنطن.
وتختم مجلة ناشونال إنترست مقالها بعبارة صريحة تقول فيها إنه على الرغم من المتغيرات العديدة في الشرق الأوسط فإن آل الأسد أثبتوا أنهم باقون هنا.
المصدر : ناشونال إنترست