تفاقمت حملات ترحيل اللاجئين السوريين من لبنان تحت مسمى العودة الطوعية، بقرار من الحكومة اللبنانية وبالتعاون مع الأجهزة الأمنية المختصة، أي الأمن العام والجيش اللبناني. لكن يبدو أن مسمى العودة الطوعية الذي تفرضه القوانين الدولية هو مسمّى فضفاض، إذ طاولت عدداً من الذين لجأوا إلى لبنان للحماية من تداعيات انشقاقهم عن الجيش السوري وفقاً لشهادات حصل عليها “درج” مدعومة من شهادات محامين ومنظمات حكومية.
*لأسباب أمنية، أسماء العسكريين المنشقّين جميعها مستعارة
في العاشر من كانون الثاني/ يناير 2024، كان عبدالله، العسكري المنشقّ عن الجيش السوري، مع زميله في العمل، متّجهاً من بيروت نحو مدينة طرابلس الشمالية، وعند الوصول إلى حاجز الجيش في منطقة المدفون، أمر العنصر سائق السيارة بالتوقّف جانباً، طالباً أوراق عبدالله الثبوتية.
لكن عبدالله كان قد نسي بطاقة تسجيله في الأمم المتحدة كلاجئ في منزله في منطقة الكولا، ما جعل الجيش يسارع إلى توقيفه، ليُحوَّل إلى سجن القبة في الشمال، ومنه الى سجن صيدنايا، بحسب عائلته ومحاميها.
ليس عبدالله الوحيد الذي اختفى بعد توقيفه من الجيش اللبناني، فهناك محمود، العسكري برتبة عقيد، الذي اختفى أيضاً، منذ تاريخ اعتقاله.
تفاقمت حملات ترحيل اللاجئين السوريين من لبنان تحت مسمى العودة الطوعية، بقرار من الحكومة اللبنانية وبالتعاون مع الأجهزة الأمنية المختصة، أي الأمن العام والجيش اللبناني.
نائبة المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، آية مجذوب، كشفت عن ترحيل الجيش اللبناني عشوائياً ما لا يقل عن 1400 لاجئ سوري، فيما رحّل الأمن العام 300 فقط، منذ بداية العام الحالي، مشيرةً إلى أن ثلثي المرحّلين ينتهي المطاف بهم خلف قضبان رئيس النظام السوري، بشار الأسد.
لكن يبدو أن مسمى العودة الطوعية الذي تفرضه القوانين الدولية هو مسمّى فضفاض، إذ طاولت عدداً من الذين لجأوا إلى لبنان للحماية من تداعيات انشقاقهم عن الجيش السوري وفقاً لشهادات حصل عليها “درج” مدعومة من شهادات محامين ومنظمات حكومية.
من لبنان إلى صيدنايا أو الاختفاء
بعد محاولات حثيثة من عائلة عبدالله (اسم مستعار) للوصول إليه بعدما فقدوا أثره، تواصلوا مع المحامي اللبناني والمتابع لهذه القضايا، محمد صبلوح، لتبدأ رحلة طويلة من البحث، والتنقّل بين المراكز الأمنية.
لجأ صبلوح إلى الشرطة العسكرية في طرابلس، والتي زعمت عدم معرفتها شخصاً بهذا الاسم، نافيةً توقيفه على الأراضي اللبنانية.
من طرابلس إلى مفرزة بعبدا وبيروت، لا أثر لعبدالله، حسبما قال صبلوح في حديثه مع “درج”، حتى أن النائب العام التمييزي رفض إعطاءه أي معلومة تُذكر حيال الملف.
بعد فترة وجيزة، تواصل شخص مجهول مع عائلة عبدلله، مدعياً أنه من الحزب القومي السوري، وأن عبدالله أصبح في عهدة السلطات السورية، وفقاً لما قاله خال عبدالله في حديثه مع “درج”. ادّعى الرجل حينها أنه مكلّف من الأمن السوري بإبلاغ العائلة بأن عبدالله أصبح في سوريا بعد شهر واحد من توقيفه في لبنان.
في التفاصيل، روى صبلوح لـ”درج”، أن عبدلله غادر لبنان عن طريق معبر حمص، بعدها سُلِّم لفرع فلسطين، السجن الذي تديره المخابرات السورية. وفي شهر نيسان/ أبريل، حُوِّل عبدالله الى القضاء العسكري ومن ثم الى محكمة الإرهاب، ليصبح معتقلاً في سجن صيدنايا.
تتمكّن عائلته عبدالله بين الحين والآخر، من زيارته لبضع دقائق، وتؤكّد أنه يتعرض للضرب المبرح والتعذيب، كما خسر الكثير من وزنه بسبب سوء التغذية، بحسب خاله.
أما محمود، فتعود قصته الى نحو عشر سنوات مضت. آنذاك، هرب مع عائلته من سوريا إلى لبنان عقب انشقاقه من الجيش السوري. في البداية، وكما حال معظم اللاجئين، دخل إلى لبنان بطريقة غير شرعية ليعود ويسلّم نفسه، ويحصل هو وعائلته على بطاقة لاجئ من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
في أيار/ مايو 2024، داهمت قوة من الجيش اللبناني خيمة محمود في عرسال واعتقلته، من دون توضيح أسباب المداهمة والاعتقال، ومذاك لم يُعرف عنه شيء و”كأنه اختفى”، بحسب زوجته.
من الناحية القانونية، أقدم صبلوح على التحرّي عنه مرات عدة، لكن السلطات الأمنية نفت توقيفه أو وجوده في فروعها. أما عن تسليمه لسوريا، فأكدت زوجة محمود أن “المتعاونين مع المخابرات السورية طلبوا 2000 دولار مقابل الاستخبار عن محمود”، مشدّدة على أنها لا تملك هذا المبلغ. وحتى كتابة هذه السطور، لا يزال مصير محمود مجهولاً.
“لا يتمتع موظفو المفوضية بالصلاحية لتقديم ضمانات أو أي نوع من النصائح للاجئين بشأن عودتهم، إذ يعود قرار العودة بالكامل إلى اللاجئين أنفسهم”.
الجيش يُرحّلْ عشوائياً
مع تصاعد الحملة ضد اللاجئين السوريين في السنوات الأخيرة بالتزامن مع أزمة سياسية وأمنية واقتصادية حادة يعيشها لبنان، تضاعفت الضغوط على اللاجئين السوريين الذين باتوا مادة سجال سياسي وطائفي داخلي، وهو ما انعكس على آليات التعامل الأمنية والسياسية، إذ سُجل الكثير من حالات الترحيل القسري تحت ستار “العودة الطوعية”.
بات عنوان “ترحيل اللاجئين السوريين” مطلباً رسمياً وسياسياً مدعوماً من شرائح واسعة، لكن لبنان غير قادر على إعادة نحو مليون ونصف المليون لاجئ سوري مع تفاقم أزمته وخلافاته مع المجتمع الدولي والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين حول إدارة الملف، والأهم رفض النظام السوري التجاوب، والذي يعدّ المسبّب الأول للجوء.
ثمّة مخالفات قانونية محيطة بهذا الملف، إذ شددت المحامية اللبنانية ديالا شحادة لـ”درج” على أنه “لا يحق لأي جهاز أمني ترحيل اللاجئين من لبنان”، مضيفة أن القرار يجب أن يصدر بمرسوم قضائي، ينفذه الأمن العام وحده، ما يعني أنه لا يحق للجيش اللبناني التدخل، استناداً الى مرسوم صادر من مجلس شورى الدولة في 20 نيسان/ أبريل 2015.
إذاً، تمنع القوانين المرعّية ترحيل اللاجئين، ويجب اللجوء إلى القضاء الذي يمتلك القرار الأخير في هذا الشأن، بناء على معطيات تثبت أحقية بقائهم في لبنان، بخاصة في حال هروبهم من سوريا لأسباب أمنية، كما أوضحت شحادة.
أما عن المعايير التي يعتمدها الجيش اللبناني، فسعت منظمة العفو الدولية الى التواصل معه، لكنها لم تحصل على إجابة، وفقاً لمجذوب، مشددة على أنها خارج سياق خطة العودة الطوعية.
بدورنا، تواصلنا مع مكتب قيادة الجيش اللبناني، الذي قال إنه معني بترحيل الإرهابيين فقط أو المشتبه بهم بالقيام بعمليات إرهابية. وفيما يتعلق بالحواجز، أوضح مكتب قيادة الجيش أنهم لا يعتقلون أحداً عشوائياً، ويتحركون في حال حصولهم على معلومات تهدّد الأمن القومي.
لا بد من التنويه بأنه عام 2023، رحّل الجيش اللبناني حوالى 13700 شخص، مقارنة بـ1500 عام 2022. بينما رحّل الأمن العام اللبناني ما لا يقل عن 430 شخصاً خلال العام الحالي.
وعند سؤالنا مكتب الجيش عما إذا كانت تهم الإرهاب أُثبتت على المرحّلين، استبدل تبريره بالقول إن المرحّلين دخلوا خلسة إلى الأراضي اللبنانية.
في هذا السياق، عادت وكررت المحامية شحادة أنه لا يحق لأي جهاز أمني، وكذلك الأمن العام، ترحيل السوريين، فالحكم يعود الى القضاء المختص أو الحكومة مجتمعةً.
وفي ما يتعلق بالاتفاقية الموقعة بين المفوضية والأمن العام اللبناني عام 2003، أوضحت شحادة أنها لا تنص على أحقية الأمن العام في الترحيل، إنما تطبيق القوانين المرتبطة في ما لو طالت فترة الإقامة المؤقتة في لبنان من دون الحصول على فرصة إعادة توطين.
ما دور المفوضيّة العليا لشؤون اللاجئين؟
في تصريحات متكررة، تعلن المفوضية أنها تتعاون مع الأمن العام اللبناني لتسهيل عودة السوريين الراغبين في ذلك والمسجلين، وأن دورها يقتصر على التالي:
تقديم المشورة للاجئين بعد الاتصال بهم والتواصل مع الأمن العام بالنيابة عن اللاجئين وتفاصيل لوجستية أخرى.
تتحفظ المفوضية عن ذكر أي معلومات عن حالات فردية لأسباب تتعلق “بالحماية الشخصية”، “لأن الطوعية والسلامة والكرامة معايير دولية رئيسية عند عودة اللاجئين”.
لكن تكررت شكاوى من بعض عائلات الموقوفين الذين تواصل معهم “درج”، من أنهم حاولوا التواصل مع المفوضية للحصول على معلومات عن ذويهم الموقوفين، لكن من دون نتيجة.
في حديثنا مع ضابط سوري منشقّ سبق واعتقله الأمن العام اللبناني بداية العام الحالي، تمهيداً لترحيله في وقت لاحق هذا العام (لم يحدد بعد) ولأسباب لم يبلَّغ بها، قال إنه أثناء وجوده في مركز التوقيف، حثّته موظفة من المفوضية على توقيع ورقة الترحيل مقابل ضمان حمايته، وسائر الموقوفين، في دمشق، والأمر نفسه سمعه المحامي صبلوح من موكّليه.
وفي ردّها على أسئلة “درج”، لم تنفِ المفوضية وجود هذه الموظفة تحديداً في مركز الأمن العام، إلا أنها نفت ضغطها على الموقوفين مع التأكيد أن المفوضية ليس من صلاحياتها تقديم مثل هذه التطمينات من عدمها.
واعتبرت المفوضية في ردّها، أن نشر هذه المعلومات جزء من حملة سياسية تتعرض لها بهدف عرقلة عملها، مؤكدة
لـ”درج”: “لا يتمتع موظفو المفوضية بالصلاحية لتقديم ضمانات أو أي نوع من النصائح للاجئين بشأن عودتهم، إذ يعود قرار العودة بالكامل إلى اللاجئين أنفسهم. وتحترم المفوضية الحق الأساسي للاجئين في اتخاذ قرارهم بالعودة الطوعية غير القسرية إلى بلدهم الأم وفي الوقت الذي هم يختارونه، وذلك وفقاً للمبادئ الدولية للعودة الطوعية والكريمة والآمنة ومبدأ عدم الإعادة القسرية”.
وأضافت: “بينما تدعم المفوضية العودة الطوعية والآمنة والكريمة للاجئين، فإننا نأخذ التقارير التي تتحدّث عن الترحيل القسري للاجئين السوريين على محمل الجد، وعند حدوث مثل هذه الحالات، نتابعها مع الجهات المعنية.
كما هي الحال في جميع البلدان، تدعو المفوضية في لبنان إلى إعطاء الناس الفرصة للتعبير عن أي مخاوف قد تكون لديهم بشأن العودة إلى بلدهم الأصلي، ولتقييم حالتهم بشكل مناسب.
وفي الوقت نفسه، تعي المفوضية جيداً تأثير استضافة لبنان أعداداً كبيرة من اللاجئين عليه، بخاصة في ظل التحديات الكثيرة التي يواجهها. ومع ذلك، تواصل المفوضية الدعوة لاحترام مبادئ القانون الدولي وضمان حماية اللاجئين في لبنان من الإعادة القسرية”.