من الطبيعي أن يكون ملف العدالة الانتقالية من أوّل القضايا التي تشغل بال السوريين بعد سقوط النظام في الثامن من ديسمبر/ تشرين الأول، لأنه وعلى خلاف باقي الملفات التي خلفتها تركة “الأسد” الثقيلة، يرتبط بشكل مباشر بمعاناة ملايين العائلات السورية من جهة، والكفيل بتحقيق السلم الأهلي في البلاد من جهة ثانية، إذ تشير التقارير إلى أن عدد الضحايا الهائل في سوريا مقارنةً بعدد سكّانها يجعل من كلّ السوريين تقريباً أصحاب ثأرٍ وأولياء دمّ، حيث قُتِل أو أصيب أو اعتقل شخص من بين كل عشرة، وهُجّر شخص من كل اثنين.
وأمام هذا الواقع فقد تناولت العشرات من وسائل الإعلام السورية وغير السورية، إضافة إلى مراكز الأبحاث هذه القضية، من حيث الأهمية، وكيفية تطبيقها، وآليات المحاسبة، وهل ستكون عدالة تصالحية أم عقابية، إلى غير ذلك من التفاصيل المتعلقة بها.
لذا سيكون الحديث في هذه المادة باتجاه مختلف قليلاً، إذ سيتم تسليط الضوء على تجارب بعض البلدان التي طبقت مبدأ “العدالة الانتقالية” في مرحلة ما بعد الصراعات والحروب الأهلية، عبر تحليل النجاحات والإخفاقات وإمكانية الاستفادة منها في الحالة السورية.
حرب أهلية في راوندا
شهدت رواندا، عام 1994، حرباً أهلية أدّت إلى واحدة من أسوأ الإبادات الجماعية في التاريخ، حيث قُتل ما يقرب من 800 ألف شخص خلال 100 يوم، معظمهم من أقلية “التوتسي” على يد جماعات “الهوتو” المسلحة.
وتعتبر تجربة رواندا نموذجاً ملهماً، حيث تم توحيد مجتمع منقسم بعد الإبادة الجماعية بفضل جهود المصالحة الوطنية والمشاركة المجتمعية الواسعة.
ما يميّز التجربة الرواندية في موضوع تطبيق العدالة الانتقالية هو اعتمادها نماذج وحلول محلية متناسبة مع خصائصها الثقافية، وتكوينها الاجتماعي، إذ لم تنتظر الحكومة الرواندية تدخّل المجتمع الدولي، بل اتخذت خطوات جادّة لحلّ الآثار السلبية للنزاع من خلال المحاكم المحلّية التي كانت جزءاً من نظام العدالة المجتمعية، فكانت المحاكمات علنيةً وتهدف إلى معالجة الجرائم بطريقة تضمن محاسبة الجناة، وفي الوقت نفسه ترميم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع.
لذلك، اعتمدت راوندا نظام “غاتشاتشا”، وهو محاكم تقليدية محلية تهدف إلى تحقيق العدالة السريعة وتعزيز المصالحة، ويمكن لسوريا -بحسب خبراء- الاستفادة من هذا النموذج في معالجة الجرائم الأقل خطورة، خاصة تلك التي ارتُكبت على المستوى المجتمعي، مع ضمان عدم الإفلات من العقاب للجرائم الكبرى.
جنوب إفريقيا.. لجان الحقيقة والمصالح
تعتبر تجربة العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا من أبرز التجارب لتطبيق هذا النظام في العالم، فبعد انتهاء فترة نظام التمييز العنصري، وما صاحبها من حرب دامت أكثر من ثلاثين عام (1960-1990) قادها المؤتمر الوطني الإفريقي ضد نظام التمييز العنصري، دخلت البلاد مرحلة الانتقال الديمقراطي، عام 1990، خاصة في فترة وصول زعيم الأقلية البيضاء (دو كليرك) إلى السلطة، حيث رفع الحظر عن نشاطات المؤتمر الوطني الإفريقي وأطلق سراح زعيمه نيلسون مانديلا بعد 27 عاماً من السجن.
أدّى إطلاق سراح مانديلا إلى مفاوضات بين حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا والمؤتمر الوطني الإفريقي، أسهمت في إحداث انتخابات العام 1994، وأدت إلى حالة من الانتقال السلمي الديمقراطي، ومشاركة المواطنين من ذو البشرة “السوداء” في الانتخابات، بعد عقود من عدم مشاركتهم أو إيلاء أي اهتمام بهم في الشأن العام، كنتاج لنظام العنصري، الذي أنشئ بعد الاستعمار الأوروبي.
وفي العام 1995، كلّف برلمان جنوب إفريقيا، بإنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة (TRC)، ضمن برنامج من بناء السلام واستدامته في الجمهورية، عبر ما يسمى بأداة “العدالة الانتقالية”، كوسيلة للتعافي من آثار وويلات عمليات انتهاك حقوق الإنسان ما بين عام 1960-1994.
وشمل تقريبا جميع أنواع العنف الذي ارتكب بحق المدنيين على خلفية عنصرية وجرائم سياسية، حيث تضمن تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة، الذي نُشر في عام 1998، شهادات من أكثر من 21000 ضحية وشاهد، في محاولة جادة لتحقيق العدالة عبر اعتراف الجاني بما اقترفه من جرائم بحق الجناة من المدنيين.
وفي هذا السياق يوضح مدير مركز سوريا القانوني للتوثيق فخر الدين العريان، أنّ تجربة جنوب إفريقيا تعد من أنجح نماذج العدالة الانتقالية، حيث تم تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، إذ ركّزت هذه اللجنة على كشف الحقيقة، وجبر الضرر، ومنح العفو المشروط للجناة الذين اعترفوا بجرائمهم.
وفي حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، يرى “العريان” أنه رغم اختلاف السياق، يمكن استخلاص بعض الدروس من تجربة جنوبي إفريقيا لتطبيق آلية ملائمة للوضع السوري، وذلك عبر تشكيل لجنة وطنية للحقيقة والتوثيق تضم ممثلين عن المجتمع المدني والخبراء القانونيين، تكون مهمتها الأساسية:
توثيق الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت منذ عام 2011.
تخليد ذكرى هذه الجرائم في الدستور، وفرض عقوبات قانونية على أي محاولة لإنكارها أو تشويه حقيقتها.
وضع إطار قانوني لمحاسبة الجناة وفق درجات المسؤولية، بحيث تُتاح الفرصة لبعض مرتكبي الجرائم للاعتراف بما اقترفوه مقابل تخفيف العقوبات، شرط ألا يشمل ذلك المتورطين في جرائم الإبادة الجماعية والتعذيب الممنهج.
تعويض الضحايا وإعادة تأهيلهم نفسياً واجتماعياً.
تحويل السجون والمعتقلات سيئة الصيت مثل سجن صيدنايا إلى متاحف لحفظ الذكرى.
تشيلي: المحاسبة والتعويضات
تعتبر تشيلي من الدول التي سعت إلى تحقيق العدالة الانتقالية من خلال الكشف عن الحقيقة لتحقيق المصالحة الوطنية، حيث دعا رئيس الدولة المنتخب (أيلوين باتريسيو)، الذي أعقب حكم الديكتاتورية، وبمقتضى مرسوم رئاسي صدر في 25 أبريل/ نيسان 1990 إلى تشكيل لجنة رسمية للتحقيق في الماضي الأليم، الذي عانى منه شعب تشيلي إبان حكم الديكتاتور بينوتشي، والكشف عن الحقيقة التي انتظرها الشعب خاصة الضحايا وأسرهم، على اعتبار أن معرفة الحقيقة تساهم في تحقيق المصالحة للوصول إلى تحقيق العدالة.
وأطلق على هذه اللجنة اسم “لجنة الحقيقة والمصالحة”، عُهد لها أمر التحقيق في الفترة التاريخية الممتدة من سنة 1973 إلى سنة 1990، خاصة حالة الاختفاء والاعتداء خارج نطاق القانون والتعذيب والوفيات المرتبطة بهذه الانتهاكات والناتجة عن ممارسات ارتكبت بمبررات سياسية.
وقد أعطيت أوامر للجنة الحقيقة والمصالحة في التحقيق بخصوص حالات القتل التي تجاوز عددها الألفي قتيل في عهد الحكم العسكري، إضافة إلى حالات الاختفاء والمهجرين.
وتعليقاً على حالة تشيلي، يرى الحقوقي العريان أنه يمكن لسوريا الاستفادة من هذه التجربة في محاسبة المسؤولين عن الجرائم الكبرى، وضمان حقوق الضحايا، ومنع تكرار الانتهاكات عن طريق محاكمة للمسؤولين عن الانتهاكات، وتقديم تعويضات للضحايا، وحفظ الذاكرة التاريخية.
بولندا: الإصلاحات المؤسسية
تمثل التجربة البولندية واحد من بين أهم هذه التجارب نظراً للخصوصية التي تفرّدت بها هذه التجربة ضمن محيطها الجيوسياسي والعالمي، والأهم جنوحها إلى الطابع السلمي في إدارتها لعملية الانتقال الديمقراطي وتحقيق العدالة الانتقالية.
وتختلف التجربة البولندية عن مساري الإنصاف والمصالحة في جنوبي إفريقيا، إذ تم تأسيس هيئة الذاكرة الوطنية البولندية، وهي مؤسسة عمومية أنشئت بمقتضى قانون، وترمي للكشف عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت على أيدي النازيين والشيوعيين، ومن أجل ضمان استقلالية الهيئة، فإن رئيسها يُنتخب مباشرة من البرلمان لولاية تستمرُ خمس سنوات.
وأضيف قسمان جديدان في نطاق الهيئة، سنة 2016، وهما مكتب التربية الوطنية ومكتب التوثيق، إذ يختص الأول بإدخال مادة في المنهاج تخصُ تعريف الأجيال الجديدة بويلات القمع الذي عاناه البولنديون في ظل الأنظمة الاستبدادية السابقة، أما الثاني فيتعلق بتجميع الوثائق الموزعة بين مديرية الشرطة السابقة والشرطة النازية.
خبراء قانونيون يرون أنه يمكن لسوريا الاستفادة من هذه التجربة البولندية في إصلاح مؤسساتها القضائية والأمنية، وإرساء نظام قانوني يحمي الحقوق والحريات، على اعتبار أن هذه التجربة قامت على إصلاحات قانونية ودستورية لضمان التحول الديمقراطي ومنع تكرار الانتهاكات، كما ركزت هذه الإصلاحات على إعادة هيكلة القضاء، وتطبيق سياسات المساءلة، وتعزيز سيادة القانون.
خصوصية الحالة السورية
تكتسب القضية السورية أهمية خاصة عند تناول مفهوم العدالة الانتقالية، نظراً لخصوصية الأحداث وتطوراتها منذ اندلاع الثورة عام 2011 وحتى مرحلة التحرير، نهاية العام 2024.
لا بدّ من التمييز بين الثورة السورية والحروب الأهلية التي شهدتها دولٌ أخرى مثل (جنوب إفريقيا، بولندا، تشيلي، رواندا وغيرهم)، إذ إنّ الطابع العام للحالة السورية لا يتجسّد في صراعٍ طائفيٍّ بين مجموعاتٍ سكانيةٍ مختلفة، كما هو الحال في تلك البلد بقدر ما هو انتفاضةٌ شعبيةٌ واسعةٌ شاركت فيها شرائح متنوعة من مختلف مكوّنات الشعب السوري، ضد نظامٍ ديكتاتوريٍّ قائمٍ على القمع والإقصاء واستغلال الأقليات وتهميش الأغلبية للحفاظ على سلطته.
وفي هذا السياق يقترح “العريان” عدة خطوات لتطبيق العدالة الانتقالية في سوريا منها؛ تشكيل لجنة الحقيقة تضم ممثلين عن كل أطياف المجتمع السوري، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني، وخبراء قانونيين، وممثلين عن الضحايا، إلى جانب إصلاح النظام القضائي وضمان استقلاليته.
ومن هذه الخطوات -بحسب “العريان”- تعويض الضحايا وجبر الضرر، عن طريق تنفيذ برامج إعادة تأهيل نفسي واجتماعي للضحايا وأسرهم، خاصة لمن تعرضوا للتعذيب والاعتقال القسري، كما يكتسب الدعم الدولي والإقليمي، عن طريق تأمين تمويل دولي لبرامج العدالة الانتقالية، والاستفادة من الخبرات الدولية، من خلال التعاون مع الأمم المتحدة والجهات المانحة أهمية كبيرة في دعم مسار العدالة الانتقالية.
ختاماً، يُجمع الحقوقيون على أن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا بعد سنوات الثورة الطويلة يعد تحدياً كبيراً، ولكنه ضروري جداً لتحقيق المصالحة الوطنية وبناء مستقبل مستقر، وهذا يتطلب إرادة سياسية قوية ومشاركة مجتمعية واسعة.
باسل المحمد