الإثنين, ديسمبر 23

اللاجئون والنازحون السوريون في دول الجوار الثلاث، تركيا ولبنان والأردن، كانوا عبئاً وظلوا كذلك، لكنهم في الدولتين الأوليين صاروا مشكلة وأقرب إلى أزمة داخلية. في المؤتمرات الأولى للدول المانحة خاض الأردن كفاحاً دبلوماسياً شديداً للحصول على مساعدات تكفي لتغطية المتطلبات التي أثقلت على بناه التحتية. ودخلت تركيا في خلافات حادة مع الاتحاد الأوروبي قبل الاتفاق معه على مساهمة سنوية في كلفة ضبط الهجرة وقوافل اللجوء. أما لبنان فتعامل مع مسألة اللاجئين بمزيج من القدرية والاستضافة الأخوية وقصر النظر، واستغرق وقتاً قبل الاستفاقة إلى ضرورة الإشراف على حركة اللجوء وضبطها، مصراً على اعتبار السوريين الهاربين إلى أرضه «نازحين» لا يتوفر لهم الغطاء القانوني الدولي كما بالنسبة إلى «اللاجئين». وكان الهاجس آنذاك ألا يجد لبنان نفسه إزاء مشكلة لاجئين أخرى بعد تلك التي واجهها مع الفلسطينيين والمخيمات التي تجمعوا فيها والسلاح الذي تحصلوا عليه للدفاع عن أنفسهم بعد أن تكاثرت الاعتداءات الإسرائيلية عليهم، ثم انزلق البلد إلى الحرب الأهلية.

يعرف النازح، للمفارقة، بأنه الشخص الذي «لم يعبر حدود بلد خارجي طلباً للجوء»، بل بقي في بلاده «وإن كانت حكومته هي السبب في نزوحه». ويعزى اعتماد لبنان هذا التعريف في 2011 إلى أن حكومته آنذاك كانت من «لون سياسي واحد»، تحت هيمنة «حزب إيران/ حزب الله»، كما لو أنها ارتضت أن تمرر على نفسها فكرة أن لا حدود بين لبنان وسوريا (علماً أن الأخيرة لا تزال ترفض ترسيم الحدود بين البلدين)، وأن السوريين إذ يفرون إلى لبنان فإنهم لا يغادرون بلادهم. ومع أن أسباب «النزوح» لا تختلف كثيراً عن أسباب «اللجوء» (الهرب من الحروب والنزاعات المسلحة، تعرض المنازل للقصف والتدمير، الخوف من الاضطهاد والاعتقال والتعذيب، الزلازل والكوارث الطبيعية…)، إلا أن القانون الدولي يمنح اللاجئين حقوقاً ولا يجيز «إعادتهم إلى وطنهم إذا كانت حياتهم أو حريتهم معرضة للخطر».

أراد لبنان تجنب تلك الحقوق، لكنه المفوضية الأممية للاجئين تستند إلى قرارات دولية توصي بأن تكون عودة اللاجئ/ النازح «آمنة وطوعية» وفي ظروف صالحة للعيش.

والواقع أن الدمار والمجازر وأعمال التنكيل في حماة وإدلب دفعت بجزء من النازحين إلى شمال لبنان (مخيمات عكار)، وفي مناطق الزبداني وريف دمشق ومخيم اليرموك والمعضمية والغوطة إلى الوسط (مخيمات البقاع)، وفي ريف حمص والقصير والقلمون إلى الشمال الغربي (مخيم عرسال) وقد تعمد «حزب إيران/ حزب الله» طرد السكان من المنطقة الأخيرة ليتخذها مستوطنة خاصة به فزرعها معسكرات وإنفاقاً لتهريب الأسلحة والمخدرات، إذ أقام فيها ما عرف باكراً بـ«مصانع الكبتاجون». ولا يتصور «الحزب» أنه سيغادر المنطقة يوماً، بل إنه جعل منها نموذجاً لانعدام الحدود بين البلدين.

وعلى رغم تصاعد النقمة الداخلية فإن «الحزب» تفادى حتى مشاركة حلفائه المسيحيين في حملات المطالبة بإعادة النازحين، لكنه استغلها للضغط على الحكومة كي تتواصل مع دمشق بغية إيجاد حل، مع علمه اليقين بأن النظام السوري والنظام الإيراني يرفضان عودة السكان لأن كلاً منهما اعتبر نفسه حر التصرف بالمناطق المدمرة.

عندما بدأت موجات النزوح السوري لم يكن لبنان قد غرق بعد في أزمته الاقتصادية والمالية، لكن وطأته استشعرت تدريجاً بحسب المجتمعات المضيفة سواء بسبب عشوائيته أو لأن الدولة لم تبد قادرة على التخطيط لاستيعاب ما بات يوصف الآن بـ«الاحتلال الديموغرافي»، تحديداً في ظل تفاقم تلك الأزمة منذ 2019 وانتقال أكثر من 80% من اللبنانيين إلى خط الفقر وما دونه وشعورهم بأنهم أصبحوا بحاجة إلى مساعدة غذائية أسوة بالنازحين السوريين الذين يتلقون رعاية دولية للطبابة والتعليم، باعتبار أنهم خارج مواطنهم وبلا موارد. كانت المساعدة الدولارية معقولة ثم أصبحت محدودة بعد انهيار العملة اللبنانية وارتفاع أسعار السلع. وبطبيعة الحال راح النازحون يغزون سوق العمل بأجور متواضعة، وينافسون لبنانيين كثراً يعملون الآن في مهن لم يكونوا يقبلون عليها سابقاً إلا أن أجورهم تبقى أعلى.

لكن ظاهرة العمالة الرخيصة ليست جديدة وليست المصدر الوحيد للشكوى من انعكاسات النزوح، فهناك نحو نصف مليون سوري كانوا مسجلين في وزارة الداخلية ويقيمون بشكل دائم في لبنان، بل تعاظمت الشكوى من النازحين متدرجة من ارتفاع نسبة الجرائم والجنح، إلى بث الفوضى، إلى الضغط على البنية التحتية من مياه وكهرباء ومرافق، إلى شيوع النزوح الاقتصادي الذي ربطه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بعصابات تتقاضى مبالغ طائلة لقاء تمرير «النازحين»، وبعض العصابات يديرها رجال أمن لبنانيون معروفون ولديهم ممرات خاصة. وعلى رغم أن المسجلين لدى مفوضية اللاجئين هم 805.326 نازحا فإن مراجع أخرى سجلت ارتفاعاً في أعدادهم إلى 2 – 2.5 مليون ما يجعلهم نحو 40% من السكان، لكن الرقم 1.5 مليون هو الواقعي، وهو كبير وخطر في ظل تلاشي الدولة وانعدام الضوابط. وقد بلغت الشكوى أخيراً حد التخويف من أن النازحين صاروا، في غياب خطط جدية لإعادتهم إلى سوريا، مصدر اختلال للتركيبة الطائفية للسكان (غالبيتهم من السًنة) ومصدر تهديد أمني بسبب انتشار الأسلحة في مخيماتهم.

لماذا تصاعدت أخيراً الحملة على النازحين؟

جملة أسباب، فهناك أولاً تطبيع عربي متسارع مع نظام بشار الأسد وسعي روسي إلى تطبيع تركي – أسدي، وفي الحالين تبرز عودة اللاجئين كمطلب إقليمي- دولي، وكعقدة أيضاً، لكن تبرز أيضاً حقيقة أن نظام الأسد وحليفه الإيراني يقاومان هذه العودة لأنها باتت «مستحيلة» إلى مناطق أتى عليها الدمار ولم تعد موجودة، ولأنها تناقض «المجتمع المتجانس» الذي يهندسانه مذهبياً بعد أن تخلصا من ثقل السنة، كذلك لأن العودة ستتسبب في مشكلات قضائية لا نهاية لها إذ إن العائدين المفترضين سيطالبون بأملاكهم أو بتعويضات عنها لكن النظام أزالها أو استملكها متبعاً نهج إسرائيل مع مئات البلدات والقرى الفلسطينية… وهناك ثانياً أن الدول المانحة ستجتمع في بروكسل منتصف يونيو المقبل لإعادة تقويم ما تسهم به مساعداتها، وتريد الدول المضيفة للاجئين أن تتحصل على مزيد من الأموال فيما يرى لبنان أن أزمته المالية ترشحه لمنحة أكبر، لكن الدول المانحة، ومنها دول عربية، أطلقت إشارات مسبقة بأن سخاءها بلغ نهايته وأن صدقية الأطراف المستفيدة، خصوصاً لبنان، تضاءلت كما أن هناك أزمات ونزاعات أخرى باتت تستقطب معظم التمويل للحاجات الإنسانية.

عبدالوهاب بدرخان
* ينشر بالتزامن مع النهار العربي.

شاركها.

كاتب وباحث في العلاقات الدولية . عضو الرابطة الألمانية للصحفيين .مساهمات في الإذاعة والتلفزيون .مدافع عن حقوق الإنسان ومؤسس ورئيس المركز العربي الأوربي للدراسات (AECS). عمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان . مؤلف ومشارك في العديد من التقارير والتحقيقات ومساهم فيها . سياسي سوري معتقل عدة مرات

اترك تعليقاً