يأتي موسم الفول الأخضر فيبتهج السوريون، أخضر وريان وطازج، تتعدد الوجبات التي يحضّر منها الفول، فول مقلّى بالزيت والثوم وأرز بالفول وبرغل بالفول، حتى يمكننا إحصاء أكثر من عشرة استخدامات للفول الأخضر في وجبات السوريين اليومية وفي الأوقات كافة.
على الرغم من ارتفاع أسعار الخضار وعدم توافر الكهرباء لتخزين الفول بالثلاجات، لكنك لا تمر أمام أي بناء إلا وستجد عبوات قشور الفول مركونة بجانب الحاوية، يمنحها البعض هدية لبائعي الحليب الجوالين الذين يحضرون الحليب للبيوت كل صباح، وتجتمع الجارات والقريبات لإنجاز مهمة تقشير الفول، ويمكن القول إن تقشير الفول والبازلاء مهمة رجالية أيضاً يفضلها الرجال وينجزونها بسرعة، ولا يترددون بالتهام الكثير من حبات الفول في أثناء تفصيصه. إذاً، مهما تتبدل الأحوال، يبقَ موسم الفول موسماً يمتزج فيه التعب مع الكلفة العالية، لكنه تقليد ثابت لا تتزحزح مكانته أبداً وطقس محبب ومرغوب فيه من الجميع.
يأتي موسم الفول في كل المدن السورية، لا في دمشق وحدها، لكن لفول الشام حكاية خاصة تشبه بصمة العين التي لا يمكن تقليدها
في سوق الخضار الشعبي تنهمك الفلاحات في تفصيص الفول حسب الطلب، بعض الباعة يحضره جاهزاً ومعبّأً في أكياس زنة كيلوغرام واحد لبيعه للسيدات اللاتي لا يملكن الوقت لإعداده أو غير القادرات على إنجاز مهمة تفصيصه لأسباب صحية. امرأة متقدمة في العمر وتسكن في أحد البيوت الملاصقة للسوق الشعبي، تلقي السلام وتفاصل أحد البائعين وتسأله عن السعر النهائي للكيلو الواحد، تعلن موافقتها، وتتجه نجو امرأة تبيع خضاراً ورقية وتفصص الفول والبازلاء وتفرم الخضار الورقية لمن يرغب أيضاً، تفاصلها أيضاً في أجرة تفصيص الكيلو الواحد، تتفقان، تعود لعند البائع، تسدد له قيمة عشرة كيلوغرامات وتطلب منه حملها نحو السيدة التي تعهدت بتفصيصها، تجلس ملاصقة لها على الرصيف، ترتبك البائعة، لكن السيدة تبادرها بالقول إنها تشتاق لأن تجلس برفقة أي شخص، ولو على الرصيف، هي مشتاقة لرفيقة تتبادل معها الحديث، ولو لوقت قصير، تنهمك المرأة صاحبة الفول بالتقشير أيضاً، ترجوها البائعة أن تتوقف، تضحك السيدة المتقدمة في العمر، التي تحاول باستمرار تثبيت نفسها على الرصيف في جلسة أكثر راحة، تضحك وتقول: اطمئني سأعطيك أجرك حتى عن الحصة التي سأفصصها، لكني أحتاج لإعادة ضخ الحياة في أصابعي المتيبسة، يمضي وقت قصير، تنهض بعده السيدة وتغيب حوالى عشرين دقيقة وتعود وبيدها دلة قهوة وثلاثة فناجين، تسكب واحداً للبائع، ومن ثم بعد إعادة جلوسها على الرصيف تسكب للبائعة ولنفسها، تضحك كثيراً لدرجة أنها تعيد فنجان القهوة إلى الرصيف مرات عدة كي لا يسقط من بين أصابعها المهتزة وهي تضحك، تختتم ضحكاتها بقولها: “هي عملنا زيارة بالشارع بحجة الفول”.
هو الفول إذن أحد فصول الحكاية المعيشية اليومية، علامة موسم بأكمله وصاحب نشاط تجاري وزراعي واجتماعي يحسب حسابه وينغرز عميقاً في الحكاية السورية في حكاية أخرى. تقول بنت شابة لأمها في ما يشبه اللوم: “أنتِ قادرة على شراء الفول جاهزاً، ادفعي وأريحي نفسك من التعب والتحسس الذي يسببه لك قشر الفول”، فتعترض الأم قائلة: “إن ما تحويه الأكياس غير طازج، وقد يكون مخلوطاً بحبات صغيرة أو غير سليمة، أو قد يكون الفول كله مراً أو ناشفاً”. تكرر البنت تأففها، وتقول لأمها: “اشتري الكمية التي تريدين واطلبي من أم رأفت تفصيصها”.
يأتي موسم الفول في كل المدن السورية، لا في دمشق وحدها، لكن لفول الشام حكاية خاصة تشبه بصمة العين التي لا يمكن تقليدها مهما تكررت المحاولات وتنوعت.