عقد ونيّف مضى على التراجيديا السورية. ثورة شعبية على نظام استبدادي طائفي مجرم تحوّلت بفعل سياساته وأدواته وحلفائه، أولاً، ثمَّ بخذلان وتآمر قوى داخلية وخارجية متعارضة الحسابات والأجندات، ثانياً، كارثةً وطنيةً، بل وإقليمية ودولية. لا سورية بقيت سورية، إذ تقطّعت أوصالها، مترافقاً ذلك مع خرابها، وأضحت معازل وبانتستونات ومحميّات تتنازعها قوى داخلية وخارجية، دع عنك المليشيات والعصابات والمافيات. ولا النظام بقي ذلك النظام القوي الهرمي المركزي الذي كان يُحكِم سيطرته على البلاد والعباد بقبضة من حديد، فهو اليوم متهالك وخاضع لوصايتي الروس والإيرانيين. ولا الشعب السوري بقي واحداً، إذ تمزّق مِللاً ونِحلاً، شيَعَاً وطوائفَ، وولاءات وجغرافيا، ما بين نزوح داخلي وهجرة خارجية. ووفق تقديرات الأمم المتّحدة ووكالاتها ومنظّمات دولية متخصّصة، تمثّل سورية اليوم أكبر أزمة لجوء ونزوح في العالم، إذ يقترب عدد اللاجئين والنازحين قسراً، داخل البلاد وخارجها، من 13.8 مليون شخص. وتفيد إحصائيات وبيانات بأنّ هناك قرابة سبعة ملايين لاجئ سوري في العالم، ومثلهم نازحون في بلادهم المُدمّرة. وإذا ما حصرنا الحديث في اللاجئين نجد نصفهم تقريباً مُقيمون في تركيا، بواقع 3.4 ملايين شخص.
هذه النقطة مُهمّة هنا، إذ تشرح جانباً من الاحتقان العنيف والدامي ضدّ المُقيمين السوريين في تركيا خلال السنوات الماضية، وتتصاعد حدّته مع اقتراب كلّ استحقاق انتخابي في البلاد. لا تتورّع المعارضة عن توظيف الوجود السوري في تركيا ورقةً انتخابيةً ضدّ حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، على أساس أنّه هو الذي سمح لهم باللجوء طلباً للنجاة من بطش نظام بشّار الأسد. حسابات المعارضة هنا بسيطة وواضحة. الأعداد الكبيرة للسوريين، في ظلّ التدهور الاقتصادي في البلاد، وارتفاع مُعدّلات الفقر وزيادة نسب التضخّم، تمثّل آليات فَعّالة لاستفزاز الاستياء والمشاعر العصبوية والشوفينية عند شرائح واسعة من الأتراك الغاضبين، ليس ضدّ “العدالة والتنمية” والرئيس رجب طيب أردوغان فحسب، بل أيضاً ضدّ السوريين، بزعم أنّهم سبب كلّ مشكلة وأزمة في تركيا، فضلاً عن تهديدهم (اللاجئين السوريين)، كما يقولون، ثقافة الشعب التركي وقيمه وتقاليده. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هنا أنّ حسابات المعارضة التركية أثبتت أنّها وصفة ناجحة، إذ إنّها أوجَدت رأيّاً عامّاً مشحوناً في تركيا ضدّ السوريين وضدّ حكم “العدالة والتنمية”، الذي يعاني تراجعاً واضحاً في حضوره، كما عكست ذلك نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية أخيراً.
تسليط الضوء بشكل مُتعمّد على السلوك السيئ لبعض السوريين وتعميمه على “الكلّ”
لا ينفي ما سبق وقوع تجاوزات وأخطاء، بل وحتّى جرائم من سوريين مُقيمين في تركيا. لكنّ المشكلة في تسليط الضوء بشكل مُتعمّد على السلوك السيئ لبعض السوريين وتعميمه على “الكلّ”، الذين هم في غالبيتهم العظمى مسالمون مشرّدون وفقراء تقطّعت بهم السبل، وتخلى عنهم القريب قبل البعيد. السوريون في تركيا، كما النازحون واللاجئون في كلّ مكان، ضحايا لا مجرمون، وبائسون لا طفيليون. الانحراف والجريمة بين هؤلاء نتاج بيئة ومعطيات موضوعية، وليس خللاً جينيّاً. خلال دراستي الماجستير في العلوم السياسية في شيكاغو كانت واحدة من المواد المقرّرة “سياسة الأقلّيات”. وما زلت أذكر مفاجأتي حينها بتأكيد المُقرّر أنّه كلمّا ارتفعت نسب الأقلّيات في مجتمع ما زادت مشاعر العنصرية ضدّهم. كان تفكيري الساذج والبريء قبل ربع قرن يفترض أنّ الزيادة في أعداد أقلّية أو أقلّيات ما في مجتمع تتناسب طرديّاً مع تراجع العنصرية، لأنّ “المجتمع الأصيل” يكون قد اعتاد عليهم وأصبح عملياً مُتعدّد الأعراق والأصول والمنابت والخلفيات. لكنّني من خلال المادة التي درستها حينئذ فهمت أنّه كلّما ازدادت أعداد الأقلّيات في مجتمع ما ارتفعت مشاعر العنصرية ضدّهم، على خلفية الشعور بالتهديد العرقي والثقافي والقيمي والاجتماعي والاقتصادي، إذ إنّها تتناسب طرديّاً مع “حمائية ذاتية” يُغذّيها مُتطرّفون شوفينيون. إنّي اليوم أكثر وعيّاً بهذه المسألة بوصفي أميركياً من أصول عربية مسلمة، يعرف معنى الاستهداف والتهميش والتشويه المُنمَّط.
يشرح الإطار التحليلي السابق جزئياً بعض ما جرى من اعتداءات عنيفة، في الأيام القليلة الماضية، من أتراك في مدينة قيصري (وسط)، غاضبين على لاجئين ومصالح تجارية سورية، على خلفية اتّهام سوري بالتحرّش بطفلة تركية. مباشرة، سارعت المعارضة التركية إلى تذخير الحادثة وتوظيفها في صراعها مع الحزب الحاكم والرئيس أردوغان. أمّا الرئيس وحزب العدالة والتنمية فهما تائهان بشأن كيفية التعامل واحتواء المشاعر العنصرية التركية الآخذة في التصاعد ضدّ اللاجئين السوريين، في خضمّ التراجع الاقتصادي في البلاد، وهو ما يبدو إقراراً ضمنياً من أردوغان بأنّه قد يكون أخطأ في الرهان على إسقاط نظام الأسد قبل 13عاماً. وحده الشعب السوري من يدفع الثمن الباهظ. فأمام خذلان العالم له، من تبقّى منهم في سورية ومن غادرها، واستمرار جرائم النظام وحلفائه في حقّهم، ومكر المعارضة التركية باللاجئين منهم في بلادهم، وتوهان حسابات “العدالة والتنمية” بين المبادئ والمصالح، فإنّه، مع كل أسف، لا يبدو أنّ ثمَّة فرجاً وخلاصاً في الأفق القريب لهذا الشعب المنكوب.
المصدر/ العربي الجديد
أسامة أبو ارشيد