الإثنين, ديسمبر 23

حضرة نائب رئيس الجمعية العامة،
أصحاب السعادة،
أيّها المندوبون الكرام،

يشكّل النزاع في سوريا، الذي دخل عامه الـ13، مأساة مروّعة في مجال حقوق الإنسان. فقد واجه الملايين من الأشخاص العاديين، وهم لا يزالون يواجهون حتّى اليوم، القتل والإصابة، والعنف الجنسي والاختطاف والاختفاء والتعذيب، والتشرّد والحرمان والأحزان. كما أنّ الزلزال المأساوي الذي هزّ البلاد الشهر الماضي شكّل ضربة جديدة أطاحت بأشخاص يعانون أصلاً الكثير من المآسي. آمل بكل جوارحي أن تنتهي معاناة جميع السوريين ومشقاتهم.

من المستحيل التأكد بكلّ يقين من عدد الأشخاص الذين اختفوا في سوريا. وغالبًا ما يتم ذكر رقم 100,000 مختفٍ، إلاّ أنّ الرقم الحقيقي قد يكون أعلى من ذلك بكثير. ولكن من المؤكد من دون أدنى شكّ أن أسر جميع الأطراف في النزاع قد دُمرت، وأنّ الأسر جميعها ترغب حقيقة في معرفة ما حدث لأحبائها. وأنا أقف أمامكم اليوم كي أنقل صوتها بكلّ ما أوتيت من قوّة.

هي حاجة إنسانية بسيطة ومتجذّرة، ولربما تكون من الجوانب القليلة التي توحد الناس المنقسمين انقسامًا عميقًا ومريرًا. فمن حقهم جميعًا أن يعرفوا الحقيقة.

يكبر الأطفال ووالدهم غائب مغيّب. وتكافح الزوجات والأمهات والأخوات لإعالة الأسرة. ومن دون الوثائق الصحيحة، لا يتمتّعن بحقوق الملكية، وقد لا يتمكنّ حتى من السفر برفقة أطفالهنّ أو حتى إرسالهم إلى المدرسة. كما يجب ألاّ تغيب عن ذهننا وصمة العار والخوف من أن الارتباط بأسرة شخص مفقود قد يولّد المزيد من العنف ضدّ المجتمع المحلي.

ويعرّض البحث عن الأحباء لمخاطر الاستغلال والتهديد الجسدي والابتزاز، والمطالبة بدفع الأموال مقابل الحصول على معلومات عن مكان وجودهم التي قد يتبين فيما بعد أنها كاذبة، كما يعرّض للأعمال الانتقامية حتّى.

لقد تحدّثنا إلى الناجين الذين تم إطلاق سراحهم بعد احتجازهم بشكل تعسّفي أو بمعزل عن العالم الخارجي في سوريا، فأخبرونا عن مدى تأثرهم بهذه التجربة المروّعة. فالتعذيب، بما في ذلك العنف الجنسي، متفشٍ على نطاق واسع، والموت يخيّم دومًا على الأجواء. وعلى الرغم من أن معظم المختفين من الرجال، فإن التجربة مؤلمة بشكل خاص بالنسبة إلى النساء. فبعد الإفراج عنهن، يرفض العديد من الأسر استقبالهنّ بسبب الافتراض بأنهن تعرضن للاغتصاب، وبالتالي جلبن “العار” لأقاربهنّ. وقد حمل هذا التراكم المروع من الصدمات إلى اختفاء العديد من الناجيات أصلاً من الاختفاء القسري، عبر مغادرة البلاد أو حتى محاولة الانتحار.

ونظرًا إلى العدد الهائل من المتضرّرين من الاختفاء القسري، وأثره المروّع على الناجين من كل الأطراف في النزاع، تبقى أزمة الأشخاص المفقودين في سوريا ساحقة من حيث فداحتها.

ومن الضروري للغاية أن يتّخذ المجتمع الدولي خطوات حاسمة، بغية توفير مسار فعال يكشف مصير الأشخاص المفقودين وأماكن وجودهم، ومتابعة إطلاق سراح الذين لا يزالون رهن الاحتجاز، وتقديم الدعم إلى الأسر. لن يتحقّق السلام الدائم في سوريا من دون إحراز تقدم ملموس في هذه القضايا الأساسية بالنسبة إلى الأسر والمجتمعات المحلية والمجتمع ككل. فكلٌّ من الآلام والخسائر والظلم قد تخطّى بكلّ بساطة حدود المعقول.

سيّدي نائب الرئيس،

عملاً بقرار هذه الجمعية 76/288، وبناءً على طلب الأمين العام، أدارت مفوضيتنا عملية تشاور واسعة النطاق ضمّت عددًا من المؤسسات الدولية والسورية ومن منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الأشخاص المفقودين. ومن بينها العديد من جمعيات الضحايا والناجين وأسرهم، والكثير منها بقيادة النساء. أودّ أن أغتنم هذه الفرصة كي أحيي شجاعة وتصميم العديد من الأفراد الذين يشكّل حقهم في معرفة حقيقة ما حصل لأحبائهم، القوة الدافعة لهذه المبادرة.

وقد اتّسمت هذه المشاورات بالوضوح المطلق. ولا يعتبر الأشخاص الأكثر تضررًا أن تحسين الآليات والعمليات القائمة بشكل تدريجي يكفي لمواجهة حجم هذه الأزمة وحدّتها.

في الوقت الحالي، تقوم مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة، بما في ذلك اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية المعنية بالمفقودين وجمعيات سورية متعددة، بتسجيل مطالبات الأسر، وتسعى إلى الحصول على المعلومات المطلوبة لتحديد هوية الرفات البشري، وتقدّم المساعدة إلى الأسر بشتى الطرق. ولكن في حين أن كل واحدة منها تقوم بأنشطة بالغة الأهمية والقيمة، لا يمكن لأي منها أن تلبّي فرديًا النطاق الكامل للاحتياجات. كما لا يمكنها مجتمعةً حتّى أن تقدّم إجابات مجدية ودعمًا كافيًا يناسبان العدد الهائل من الأسر التي تبحث عن الأقارب المفقودين.

واتفقت معظم الجهات الفاعلة التي استشرناها على ضرورة إنشاء كيان جديد ومخصص، يتمتّع بتفويض لتوضيح مصير الأشخاص المفقودين وأماكن وجودهم، وتزويد الأسر والناجين بالإجابات والدعم الكافي. كما أعرب عدد من الدول الأعضاء عن دعمه لهذا النهج.

وستعمل هذه المؤسسة بالتعاون والتكامل مع الجهات الفاعلة القائمة حاليًا، بغية سد الثغرات المحددة في تقرير الأمين العام A/76/890 وتوفير إطار عمل يمكنّ الجهات الفاعلة القائمة من مواصلة عملها وتنسيقه.

وستشكّل هذه المؤسسة وِجهة للناجين والأسر تتّسم بالوضوح ويسهل الوصول إليها وتتمحور حول الضحايا. ويجب أن يشكّل الوضوح جانبًا أساسيًا من إعادة بناء ثقة الضحايا والناجين.

كما أكّد من تمّت استشارته العديد من المبادئ التوجيهية الرئيسية التي يجدر أن تتّبعها هذه المؤسسة، ومنها:

أولاً، يجب أن تتمحور المؤسسة الجديدة حول الضحايا والناجين. فالانخراط مع الأسر والناجين، ومع منظمات المجتمع المدني السورية، ضروري منذ المراحل الأولى لانطلاق المؤسسة وعلى طول عملياتها، بما في ذلك المشاورات المكثفة معهم حول تصميمها وأدائها. ولا يمكن تحقيق أيّ خطوة تخصّهم من دونهم. فالأسر والناجون ليسوا بمجرد مستفيدين من المؤسسة بل هم شركاء فيها. وهم من حددوا الثغرات والتحديات، ويجب أن نسترشد بخبرتهم فيما نعدّ طرقًا مجدية لمعالجة الأضرار التي تؤثر عليهم.

ثانيًا، على المؤسسة أن تراعي المنظور الجنساني انطلاقًا من تصميمها مرورًا باستخدام العاملين فيها وصولاً إلى إدارة الحالات وأعمال البحث والدعم. ويجب أن تستوعب جميع عملياتها بشكل كامل الأعباء غير المتناسبة للاختفاء الملقاة على عاتق النساء، وأن تبحث عن طرق للتخفيف من حدتها.

ويجب أن تكون المؤسسة شاملة وأن تعمل بمنأىً عن أي تمييز، سواء على أساس الأصل العرقي أو الرأي السياسي أو الجنس أو الوضع من اللجوء أو أي صفة أخرى من هذا القبيل.

ويجب أن تسترشد المؤسسة، في جميع أنشطة البحث، بالافتراض العملي بأن الشخص المفقود على قيد الحياة وبحاجة ماسة إلى المساعدة.

ليس الاختفاء بقضية حزبية. فالمختفون من جميع الجهات. لذا، يجب أن تكون المؤسسة غير حزبية ومحايدة ومستقلة عن أي حزب.

وأخيرًا، يجب أن تسترشد المؤسسة بمبدأ عدم الإضرار في عملياتها. وهذا مهم بشكل خاص عند التعامل مع الأسر التي قدمت بشكل متكرر معلومات حساسة وشخصية إلى العديد من الجهات الفاعلة المختلفة، ولم تُقابل سوى بمتابعة اعتبرتها غير كافية، تركتها في حالة من عدم الثقة وفي حالة متجدّدة من الصدمة وهي لا تزال في حالة من عدم اليقين.

أصحاب السعادة،

اسمحوا لي أن أنتقل الآن إلى المعايير المطلوبة التي تمكّن مثل هذه المؤسسة من الاضطلاع بولايتها بشكل فعال. وفي حين أن عددًا من الخيارات متوفّر، نقترح الحد الأدنى من المتطلبات التالية.

أولاً، من الضروري أن تغطي المؤسسة الجديدة جميع الأشخاص المفقودين في سياق النزاع في سوريا، بغض النظر عن المكان أو الجنسية.

ويجب إعلام جميع الأسر التي لديها شخص مفقود بالمكان الذي يمكنها قصده في هذا الصدد، وما هي الخطوات التالية المتّخذة، ومن يمكنها الاتّصال به عندما ترغب في طرح أي سؤال.

ويجب أن يقع مقر المؤسسة في مكان يشعر فيه الناجون والأسر بالأمان، على أن تضمن المؤسسة حماية مشدّدة للبيانات. وبهدف دعم أسر المفقودين السورية من الشتات العالمي، يجب أن تتمكّن المؤسسة من الوصول إلى مناطق تقع في المواقع الجغرافية الرئيسية.

وبالإضافة إلى كونها مترسّخة تمامًا في حقوق الإنسان، يجب أن تسعى هذه المؤسسة التي تتمتّع بقاعدة واسعة نطاق، إلى دمج خبرات متعددة الاختصاصات في مجالات مختلفة منها التوثيق والصدمات ومراعاة المنظور الجنساني، وأن تطلق الشراكات مع خبراء في مجال الطب الشرعي والأدلة الجنائية وغيرها من المجالات التقنية الأخرى.

ويجب أن تبقى شفافة، وأن تصدر تقارير دورية عامة، وأن توفر حيّزًا فعالًا للإصغاء بصورة منتظمة إلى الأسر التي تخدمها.

في ما يتعلق بأساليب العمل، على المؤسسة الجديدة عدم تكرار الخدمات التي تقدمها الجهات الفاعلة القائمة حاليًا. وبدلاً من ذلك، يجب أن تتعاون معها وأن تتجنّب كتم المعلومات والانعزال الذي قد ينشأ حيث تعمل كيانات متعددة على القضايا نفسها.

وعلى وجه التحديد، على المؤسسة الجديدة أن تدعم العلاقات المتجذّرة والقيّمة التي أقامتها الجمعيات السورية مع الأسر والناجين، بدلاً من أن تحل محلها.

كما يجب أن تكون بتصميمها قابلة للتكيف، بحيث يمكن تطويرها في المستقبل، وبحسب الحاجة، وتحويلها إلى آلية مختلطة أو وطنية. أمّا الهدف منها في نهاية المطاف فهو أن تصبح هذه المؤسسة سورية.

من حيث الهيكل، أقترح قسمين رئيسيين، بحيث يركّز الأوّل على البحث والثاني على دعم الضحايا ومشاركتهم.

وينطوي عمل البحث على تحديد الحالات بحسب الأولوية، وعلى دمج المطالبات والبيانات المتوفّرة في قاعدة بيانات تتيح البحث فيها. وقد تتطلب بعض الأنشطة، على غرار تجميع الحالات، إنشاء شراكات أوسع نطاقًا، قد تكون مفيدة أيضًا للتصدي للتحديات العملية المتعلقة بإمكانية الوصول.

أما عنصر دعم الضحايا في هذه المؤسسة فيحتاج إلى تقييم احتياجات الأسر والناجين الفورية والطويلة الأجل والاستجابة لها، مع إيلاء اهتمام خاص للنساء والفتيات. كما يحتاج إلى بناء ودعم شبكة من الموارد ومن مقدمي الخدمات، يمكن الاستعانة بها للمساهمة في مجموعة من القضايا، انطلاقًا من الحصول على وثائق الهوية وصولاً إلى الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني مرورًا بعدد من القضايا الأخرى المختلفة.

أصحاب السعادة،

إنّ الغياب المستمر لعشرات الآلاف من الأشخاص، من أطفال صغار ورجال ونساء ومسنين، يستدعي اتخاذ إجراءات صارمة. ويجب معالجة هذه الآلام المشتركة، وهذه الخسائر المتفشية على نطاق واسع في الأحياء والقرى في جميع أنحاء البلاد. وتبقى المصالحة بعيدة المنال من دون مثل هذا العمل. ومن الممكن أن تساهم الخطوات الأولى في هذا الاتّجاه في استعادة الثقة بين المجتمعات المنقسمة.

لذا، أدعو الجمعية العامة إلى النظر في إمكانية إنشاء مؤسسة جديدة من شأنها أن تساهم في تقديم الإجابات والدعم لأسر آلاف المختفين والناجين، بغية توضيح ما حدث لجميع سكان هذا البلد المجروح والمنهك، ومدّ يد العون والدعم لمن هم في أمس حاجة إليها. فنحن مدينون لشعب سوريا بأكثر من ذلك بكثير.

شكرًا سيّدي نائب الرئيس.

شاركها.

كاتب وباحث في العلاقات الدولية . عضو الرابطة الألمانية للصحفيين .مساهمات في الإذاعة والتلفزيون .مدافع عن حقوق الإنسان ومؤسس ورئيس المركز العربي الأوربي للدراسات (AECS). عمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان . مؤلف ومشارك في العديد من التقارير والتحقيقات ومساهم فيها . سياسي سوري معتقل عدة مرات

اترك تعليقاً