أظهر التقرير الأخير الذي نشرته منظمة “فريدم هاوس” تراجعاً ثابتاً خلال العام الماضي ومنذ “الربيع العربي”، إلى جانب انخفاضات كبيرة في بعض البلدان وتحذيرات من انخفاضات إضافية في العام المقبل.
في التقرير السنوي حول “الحرية في العالم” الذي أصدرته منظمة “فريدم هاوس” في 9 آذار/مارس، سجلت دولة واحدة فقط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي العراق، درجات أعلى، وإن بشكل طفيف فقط، مما كانت عليه قبل عقد من الزمن في مؤشر الحقوق السياسية والحريات المدنية. وبقيت الدرجات في العديد من البلدان الأخرى دون تغيير تقريباً خلال تلك الفترة، بينما سجلت ثلاثة بلدان انخفاضاً كبيراً، وهي: تركيا (من 61 إلى 32)، ومصر (من 41 إلى 18)، وليبيا (من 43 إلى 10). (بإمكان البلدان أن تكسب ما يصل إلى 60 نقطة للحريات المدنية و 40 نقطة للحقوق السياسية).
ونتيجةً لذلك، صُنّفت الغالبية العظمى من دول المنطقة وباستمرار على أنها “غير حرة”. وتتمتع إسرائيل فقط بتصنيف “بلد حر” في الوقت الحالي، في حين فقدت تونس هذا التصنيف عام 2021 بعد أن احتفظت به بين عامَي 2014 و 2020. وعند إمعان النظر في البيانات، تتجلى معطيات معبّرة حول كيفية تطور هذه القضايا (أو عدم تطورها) في المنطقة مقارنةً بالعام السابق وبفترة “الربيع العربي” التي شهدتها المنطقة قبل عقد من الزمن.
التطورات عام 2022: ما الذي تغيَّر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟
سجّلت ثلاث دول إقليمية انخفاضاً في درجاتها الإجمالية بين تقريرَي “فريدم هاوس” لعامَي 2022 و 2023، بينما شهدت خمسة بلدان ارتفاعاً بمقدار نقطة واحدة، ولم تشهد ثلاث عشرة دولة أي تغيير.
الانخفاض الأكبر: تونس. انخفضت الدرجة الإجمالية لتونس بمقدار 8 نقاط هذا العام (من 64 إلى 56)، وسجلت التراجع الأكبر بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويشمل هذا المنحى انخفاضاً بمقدار 6 نقاط في مؤشر الحقوق السياسية بسبب سلسلة التغييرات القانونية والدستورية التي أدخلها الرئيس قيس سعيّد، والتي أضعفت مرشحي المعارضة الذين يسعون للفوز بمقاعد في الانتخابات النيابية التي أجريت في كانون الأول/ديسمبر – وهي الأولى في البلاد منذ أن أقال سعيّد الهيئة التشريعية السابقة في 2021. كما انخفضت درجة الحريات المدنية في تونس بمقدار نقطتين بسبب القيود المفروضة على حرية التعبير والصحافة، بالإضافة إلى مرسوم أضعف استقلالية القضاء.
قمع الحريات المدنية في إيران: لم تتغير درجة إيران على مؤشر الحقوق السياسية هذا العام، في حين انخفضت درجتها في الحريات المدنية بمقدار نقطتين نظراً لحملة القمع العنيفة التي شنّها النظام ضد حركة الاحتجاجات الوطنية التي بدأت في أيلول/سبتمبر الماضي وانتشرت في جميع أنحاء البلاد. ووفقاً لتقديرات “فريدوم هاوس”، قتل النظام ما يقرب من 500 متظاهر واعتقل حوالي 14000 آخرين بين أيلول/سبتمبر وكانون الأول/ديسمبر. وأدت هذه الأعمال وغيرها إلى انخفاض درجات إيران الإجمالية من 16 إلى 14 نقطة (لمزيد من المعلومات حول تعقيدات نظام التسجيل فيما يتعلق بإيران، راجع القسم الأخير من هذا المرصد السياسي).
تعزيز التضامن السياسي في الضفة الغربية: انخفضت الدرجة الإجمالية للضفة الغربية من 23 إلى 22 نقطة بسبب تراجع تصنيفها في مؤشر الحقوق السياسية بعد أن سعى رئيس “السلطة الفلسطينية” محمود عباس إلى إحكام سيطرته على القضاء. فقد أصدر في تشرين الأول/أكتوبر مرسوماً رئاسياً بإنشاء مجلس أعلى جديد للقضاء برئاسته، كما سمح له المرسوم بتعيين أعضاء الهيئة.
ارتفاع طفيف في بلدان مختلفة: على الرغم من الاضطرابات المستمرة على الصعيد الوطني في لبنان، ارتفعت في الواقع درجته في مؤشر الحقوق السياسية بمقدار نقطة واحدة لأن المرشحين المستقلين المرتبطين بالحراك الاحتجاجي لعام 2019 فازوا بثلاثة عشر مقعداً في الانتخابات النيابية التي جرت العام الماضي، مما شكل تحدياً للأحزاب الراسخة في البلاد. كما شهدت أربعة بلدان أخرى ارتفاعاً بمقدار نقطة واحدة في مؤشر الحريات المدنية، وهي المملكة العربية السعودية، وذلك نتيجة التخفيف من صرامة القوانين المتعلقة بنظام ولاية الرجل وإزالة بعض الحواجز القانونية أمام دخول المرأة إلى سوق العمل؛ وليبيا، التي عملت على تحسين التدابير المتعلقة بحرية التعبير والمعتقد في البلاد؛ والإمارات العربية المتحدة، نتيجة تحسين إجراءاتها المتعلقة بالحقوق النقابية والتنظيمية؛ وإسرائيل، لتجنبها تكرار أعمال العنف الواسعة النطاق التي نشبت بين الشرطة والمدنيين التي حدثت عام 2021 بعد إخلاء الفلسطينيين في القدس الشرقية. ومع ذلك، فقد حذّر تقرير “فريدم هاوس” بشكل خاص من أن الحكومة الإسرائيلية التي تشكلت في كانون الأول/ديسمبر قد تقوّض استقلالية القضاء في البلاد والعناصر الجوهرية لديمقراطيتها، مما قد يؤدي إلى انخفاض درجاتها في المستقبل.
الاتجاهات منذ عام 2010
بالعودة إلى تقارير “فريدم هاوس” الصادرة خلال العقد الماضي، تتضح اتجاهات رئيسية أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
اختفاء “عثرة” الربيع العربي: عندما بدأت حركات “الربيع العربي” تبصر النور في بلدان مختلفة في أواخر عام 2010، كان متوسط درجات الحقوق السياسية والحريات المدنية في المنطقة 32 نقطة، وبلغ هذا المتوسط ذروته عند 34 نقطة في عام 2012. وبعد ذلك، أخذ ينخفض بشكل مستمر ليصل إلى أدنى مستوياته عند 26 نقطة بين عامَي 2021 و 2022 – وهو مسار يعكس الإصلاحات المؤقتة والمحدودة التي تم إقرارها في بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويعود الانخفاض المطرد في الدرجات بعد عام 2012 إلى حملات القمع الاستبدادية ضد المتظاهرين وشخصيات المعارضة.
وعلى وجه التحديد، شهدت دول شمال أفريقيا التي حصلت فيها ثورات شعبية – مصر وليبيا وتونس – ارتفاعاً كبيراً ولكن مؤقتاً خلال عامَي 2011 و 2012. فقد استمرت الدرجة الإجمالية على مؤشر الحقوق السياسية والحريات المدنية في تونس بالارتفاع حتى بلغت ذروتها عند 79 نقطة في عام 2015، لكنها انخفضت بعد ذلك بمقدار نقطة واحدة في عام 2016 وبـ 8 نقاط في عام 2017 بسبب تأجيل الانتخابات، وزيادة النفوذ السياسي للأفراد غير المنتخبين، والقيود المفروضة على شخصيات المعارضة، وهي مشاكل أنذرت بالتراجع الذي شهدته البلاد مؤخراً وبانخفاض الدرجات في عهد الرئيس سعيّد. وعلى النحو نفسه، بلغت درجات مصر وليبيا ذروتها في عام 2012، لكنها انخفضت منذ ذلك الحين بمقدار 23 و 33 نقطة على التوالي. فالدرجة الحالية لمصر هي أقل مما كانت عليه قبل “الربيع العربي”، في حين أن درجة ليبيا بقيت هي نفسها عملياً. كما لوحظت انخفاضات مستمرة في البحرين (18 نقطة منذ عام 2010) واليمن (20 نقطة).
أكبر تراجع للحرية: تركيا واليمن والبحرين. شهدت تركيا الانخفاض الأكبر في الدرجة الإجمالية (31 نقطة) بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال عامَي 2010 و 2022. وحدث انخفاضها السنوي الأكبر (15 نقطة) في عام 2016 بعد رد الرئيس رجب طيب أردوغان على محاولة الانقلاب. وأشارت “فريدم هاوس”، إلى فرض أردوغان حملة قمع شديدة على الإعلام في ذلك العام حيث اعتقل وأقال أكثر من 150 ألف موظف في القطاع العام للاشتباه بتورطهم في الانقلاب. ثم انخفضت درجة تركيا بمقدار 6 نقاط أخرى في عام 2017 مع مواصلة الحكومة حملتها القمعية، مما أدى إلى تراجع البلاد إلى تصنيف “غير حر” الذي تحافظ عليه منذ ذلك الحين.
وفي المرتبة الثانية بعد تركيا، سجّل كل من اليمن والبحرين ثاني أكبر الانخفاضات. فقد انخفضت درجة اليمن بمقدار 20 نقطة بين عامَي 2010 و 2022 بسبب الحرب الأهلية المستمرة، بينما انخفضت درجة البحرين بمقدار 18 نقطة بسبب الحملة القاسية التي شنتها الحكومة على المتظاهرين السياسيين والسكان الشيعة ككل.
سوريا تحافظ على اختلافها: وفقاً لتصنيفات “فريدم هاوس”، لم يصل أي من البلدان المذكورة أعلاه إلى المستوى المتدني الذي سجلته سوريا. فمنذ عام 2010، صُنفت دمشق باستمرار من بين أسوأ الحكومات، ليس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فحسب، بل في العالم كله. لكن درجاتها المزرية ليست مفاجئة نظراً إلى القمع الدموي الذي يمارسه بشار الأسد ضد معارضي النظام، بما يتضمنه ذلك من استخدام للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين والكثير من الفظائع الأخرى.
التطلع للمستقبل
من شبه المؤكد أن تسجل درجات الحقوق السياسية والحريات المدنية في تونس انخفاضاً إضافياً في التقرير المقبل لـ “فريدم هاوس” مع استمرار سعيّد في ترسيخ سلطته هذا العام. فقد شنّ حملة اعتقالات مسيّسة للغاية استهدفت منتقدي الحكومة، بمن فيهم شخصيات سياسية معارضة حالية وسابقة، وقضاة، ومحامون، وصحفيون. ويُفترض أيضاً أن تكون “فريدم هاوس” قد أخذت علماً بتصريحات سعيّد التحريضية ضد الهجرة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والتي أثارت أعمال عنف واعتقالات عشوائية ضد السكان المهاجرين في البلاد.
وكما أشرنا سابقاً، من الممكن أن تنخفض درجات الحقوق السياسية والحريات المدنية في إسرائيل في العام المقبل أيضاً. فخلال الأشهر القليلة الماضية، سعت حكومة رئيس الوزراء نتنياهو إلى تشريع إصلاحات قضائية اعتُبرت على نطاق واسع أنها تركز السلطة بيد السلطة التنفيذية، مما أدى إلى إطلاق احتجاجات حاشدة في الشوارع وإقالة وزير الدفاع يوآف غالانت (تم عكس ذلك في وقت لاحق) بعد أن أعرب عن معارضته ودعا إلى وقف الإصلاحات. وثمة عامل آخر قد يؤثر في درجة إسرائيل وهو قرار وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بحظر رفع الأعلام الفلسطينية في العلن.
ومن المثير للاهتمام هو أن درجات إيران ستبقى على الأرجح ثابتة أو تنخفض بمقدار ضئيل فقط في تقرير العام المقبل بغض النظر عن أداء النظام في عام 2023، وذلك لأن معظم مقاييس “فريدم هاوس” لا يمكن أن تنخفض إلى ما دون الصفر وفقاً لنظام تصنيف المنظمة، وقد سبق أن وصلت إيران بالفعل إلى هذا الرقم في عدة فئات محددة، على سبيل المثال، حقوق الناس في تنظيم الأحزاب السياسية). وبالتالي، فإن درجتها الإجمالية على مؤشر الحقوق السياسية والحريات المدنية قد تبقى دون تغيير أو تنخفض قليلاً في العام المقبل على الرغم من القمع المستمر للاحتجاجات. وهذا بالطبع لا يعني أن وضعها الداخلي ظل ثابتاً.
المصدر
كميل جابلونسكي هي مساعدة باحثة في “برنامج راينهارد للاستخبارات ومكافحة الإرهاب” التابع لمعهد واشنطن.