النزاع السوري بكل تفصيلاته، الذي أودى بحياة أكثر من 230 ألف مدني، وما يزيد عن 100 ألف مفقود، أدى إلى تهجير ملايين الأشخاص وأصبح يُعرف بأكبر أزمة إنسانية ولاجئين في العصر الحديث. على الرغم من المحاولات المستمرة لمحاسبة النظام السوري، مثل الدعوى المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية من قبل هولندا وكندا حول انتهاكات اتفاقية مناهضة التعذيب، والمحاكمات الفردية في ألمانيا وفرنسا، فإن معظم المسؤولين الرئيسيين عن هذه الجرائم أفلتوا حتى الآن من العدالة. بعضهم لا يزال يسافر بحرية ويعود للظهور في المحافل الدبلوماسية.
لهذه الأسباب، هناك ضرورة ملحة لتحرك المحكمة الجنائية الدولية، وهي الجهة التي أُنشئت خصيصًا لمقاضاة المسؤولين عن الجرائم الدولية الجسيمة مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.
وفقًا لنظام روما الأساسي، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية ممارسة اختصاصها عبر ثلاث طرق: إما من خلال إحالة دولة عضو، أو عبر مبادرة المدعي العام، أو بإحالة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ورغم محاولة قوية في عام 2014 لإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية من قبل ثلاث عشرة دولة في مجلس الأمن، فقد تم إحباط هذه المحاولة باستخدام الفيتو من قبل روسيا والصين.
حتى وقت قريب، كانت الفرص القانونية لمحاكمة الجرائم في سوريا محدودة بسبب الفيتو وعدم عضوية سوريا في المحكمة. لكن في عامي 2018 و2019، فتحت المحكمة الجنائية الدولية أبوابها مجددًا أمام الحالة السورية من خلال قرارات تاريخية.
الطريق نحو المحكمة الجنائية الدولية لسوريا
في عام 2018، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكمًا تاريخيًا يقرر أن للمحكمة اختصاصًا في قضية ترحيل الروهينغا من ميانمار إلى بنغلاديش، على الرغم من أن ميانمار ليست دولة عضو في المحكمة. اعتمد هذا الحكم على أن جزءًا من الجريمة تم على أراضي دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية. وهذا ما مكن المحكمة من ممارسة اختصاصها.
في عام 2019، سمح المدعي العام ببدء تحقيق في جرائم ترحيل، اضطهاد، وأفعال غير إنسانية، وذلك بعد توثيق الترحيل العنيف لمئات الآلاف من الروهينغا إلى بنغلاديش. هذه الأحكام فتحت الباب أمام إمكانية ممارسة المحكمة الجنائية الدولية لاختصاصها في قضايا أخرى مشابهة، مثل النزاع السوري.
في الحالة السورية، هناك أوجه تشابه ملحوظة مع قضية الروهينغا. العمليات العسكرية الوحشية التي شنها النظام السوري، والتي شملت القصف العشوائي، الهجمات الكيميائية، الاعتقالات التعسفية، والعنف الجنسي، دفعت أكثر من 630 ألف سوري إلى اللجوء إلى الأردن، وهو دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية. هذا النزوح القسري عبر الحدود يعزز من إمكانية تدخل المحكمة الجنائية الدولية في القضية السورية، كما حدث في ميانمار.
لذلك فإن القرارات التاريخية الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية تفتح اليوم نافذة للعدالة في سوريا، حيث إن المجتمع الدولي مطالب اليوم بإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة، لضمان أن يتم تقديم المسؤولين عن الجرائم الفظيعة إلى العدالة، وترسيخ مبادئ المحاسبة والعدالة الدولية.
وعليه فإن مع تصديق الأردن على نظام روما الأساسي، تتاح الفرصة أمام المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الترحيل، وكذلك الجرائم الأخرى مثل الاضطهاد والأفعال اللاإنسانية التي بدأت في سوريا وانتهت في الأردن، على غرار ما حدث في قضية ميانمار مع بنغلاديش.
الإحالة من الدول الأعضاء والتعاون مع آلية التحقيق الدولية المستقلة
أكثر من خمسين ضحية سورية تم ترحيلهم إلى الأردن قد قاموا باتخاذ إجراءات قانونية. خلال السنوات الخمس الماضية، قُدّمت للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أربع مذكرات على الأقل من الضحايا ومحاميهم ومنظمات غير حكومية مثل “المركز القانوني في جميع أنحاء العالم” (LAW)، تطالب بفتح تحقيق وتجادل بأن للمحكمة الولاية القضائية. إلا أن المحكمة لم تتخذ بعد أي قرار بشأن هذه المذكرات. وبموجب المادة 15 من نظام روما الأساسي، يتمتع المدعي العام بسلطة تقديرية في اتخاذ القرار حول فتح التحقيق من عدمه، من دون وجود أي إطار زمني يلزمه بالرد أو اتخاذ أي إجراء.
في المقابل، تستطيع الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية دفع المحكمة للتحرك بموجب المادة 14 من نظام روما الأساسي. يتيح هذا النص لأي دولة عضو إحالة الوضع القائم في سوريا والأردن إلى المدعي العام، وبالتالي دفع المحكمة لفتح تحقيق. ما يميز هذه الإحالة أنها لا تفرض على الدولة المُحيلة عبئًا أدلّيًا كبيرًا. فإحالات مماثلة في حالات مثل أوكرانيا وفلسطين وفنزويلا كانت مختصرة للغاية، ولم تتجاوز عدة صفحات. بالإضافة إلى ذلك، بمجرد إحالة دولة عضو للوضع، يُلزَم المدعي العام بفتح تحقيق ما لم يتمكن من إثبات عدم وجود أسس معقولة للمضي قدمًا. وهذا يختلف عن السلطة التقديرية التي يتمتع بها المدعي العام عند تلقيه مذكرات من منظمات غير حكومية بموجب المادة 15.
كما أن طلب المدعي العام للحصول على إذن من الدائرة التمهيدية لفتح تحقيق وفقًا للمادة 15 قد يتطلب وقتًا طويلًا، أحيانًا يمتد لأشهر. إلا أن الإحالة من دولة عضو تلغي الحاجة إلى هذا الإذن، مما يعجل بالعملية. ويمكن لمكتب المدعي العام الاستفادة من الأدلة الوفيرة التي جمعتها الأمم المتحدة وسبق تحليلها في هذا السياق.
أنشأت الأمم المتحدة “آلية التحقيق الدولية المستقلة والمحايدة” (IIIM) للمساعدة في التحقيق بمسؤولية أخطر الجرائم المرتكبة في سوريا منذ آذار 2011. ومن المرجح أن تدعم هذه الآلية أي تحقيق في هذا الشأن، مستندة إلى سابقة ميانمار/بنغلاديش، مع تسليم الأدلة التي تبرهن على السياق الذي وقعت فيه الجرائم ضد الإنسانية في سوريا.
التعاون بين الإحالة من دولة عضو والمحكمة الجنائية الدولية مع الآلية المستقلة سيضمن الاستخدام الأمثل للموارد، ويوجه رسالة قوية وواضحة للجناة والضحايا على حد سواء.
الحاجة الملحة للتحرك الآن
مر أكثر من عقد على بدء النزاع في سوريا، ومع ذلك، ما زالت الجهود المحلية غير كافية لتقديم المحاسبة والعدالة المناسبة للعدد الكبير من الضحايا والمعتقلين والمهجرين، حيث لا يمكن بناء سوريا جديدة دون مواجهة الماضي والتعامل مع الجرائم المروعة التي وقعت، كما أن المحاسبة على أعلى المستويات ليست مجرد مطلب أخلاقي، بل ضرورة لتحقيق مصالحة حقيقية وتمهيد الطريق نحو مستقبل أفضل.
الوقت الحالي هو الأنسب للدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية لتولي زمام المبادرة، وإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة. بخلاف محكمة العدل الدولية (ICJ)، تتيح المحكمة الجنائية الدولية للناجين السوريين من الفظائع فرصة نادرة لتحميل المسؤولين الحكوميين مسؤولية جنائية فردية. الآن يقع على عاتق الدول الأعضاء في محكمة الجنائية الدولية أن تجعل هذا التحقيق حقيقة واقعة.
– ياسر تبارة: عضو مؤسس في مجلس إدارة المنتدى السوري ورئيس التخطيط الاستراتيجي.
– نيك ليدي: رئيس قسم التقاضي في “المركز القانوني في جميع أنحاء العالم” (LAW) ومحامٍ سابق في مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.