في ساحة باب توما، وعلى رصيف موقف الحافلات الكبيرة، امرأة ثلاثينية قلقة مع طفلة فرحة بفستانها الأحمر القصير الذي يلاعبه الهواء المتقطع في جو صيفي حار ودبق.
على يسار المرأة صندوق كرتوني كبير موضوع على دكة حجرية وكأنها بنيت من أجله، تلمع ست عبوات زيت نباتي في أعلى الصندوق الممهور بختم المنظمة الدولية للاجئين، منذ سنتين وربما ثلاث باتت صناديق الإعانات شحيحة الظهور، وبات حضورها لافتاً للنظر وللكثير من الأسئلة ومن المشاعر الدفينة بمدى الرغبة في الحصول على صندوق منها، مشاعر يتخللها الغضب وربما الغيرة والحسد أيضاً.
تعرف المرأة قيمة صندوقها، وقد ضاعفت نظرات المارة من شعورها بالضيق والقلق حياله، حاولت تغطية الصندوق لإخفاء محتوياته، وخصوصاً عبوات الزيت، لكنها لم تجد وسيلة لذلك سوى تغطيته بحقيبة يدها، لم تغطِّ الحقيبة سطح الصندوق، بدت الحقيبة أصغر مما تخيلت السيدة، فجأة برزت بوضوح تلك الندوب الكبيرة على سطحها الرث، تغير موقف السيدة من الصندوق، باتت غير مكترثة بتغطيته، سحبت حقيبتها وبأصابعها وبعينيها مسحت كل تلك الاهتراءات، غمرها الحزن فجأة وهمهمت بضيق في سرها، أعادت تعليق حقيبتها على كتفها وكأنها تريد حمايتها أو إخفاء عيوبها عن عيون المارة، وتركت الصندوق على حاله مجلباً للتطفل والتعليقات.
تفاوض سائق السرفيس على نقل الصندوق لكن برجاء أن يحمله عنها إلى المقعد، يرفض ويقول لها: “بدي آجار راكب!”.
كلب كبير يجره شاب أنيق، يعبر الرصيف بثقة ويقترب من الطفلة، يحاول شمها فتصرخ برعب، تحملها أمها بقوة دونما تركيز وتشتم الكلب وصاحبه، يتوقف الشاب ليتبادل الحديث مع صديقه الذي مرّ بالصدفة وانهمك في تدليل الكلب وتقبيله، تصرخ المرأة بهما قائلة: “البنت عم ترجف، روحوا لقدام!”. يبتعد الشابان وهما يسخران من الأم ومن خوفها وخوف ابنتها، يعلّق رجل متقدم في العمر، قائلاً للمرأة: “صاروا الكلاب أهم من البشر، بدك تتعودي!”. تحافظ الأم على صمتها، يبدو أنها متعبة ويائسة لدرجة أنها لا تقوى على الكلام، تعيد الطفلة إلى الأرض شبه مطمئنة، طال انتظارها وتزايد قلقها ومن وعدها بنقل الصندوق لم يأتِ ولم يتصل، تجري اتصالاً من هاتفها، لكن لا جواب، تكرر الاتصال والصمت سيد الموقف، تفاوض سائق السرفيس على نقل الصندوق، لكن برجاء أن يحمله عنها إلى المقعد، يرفض ويقول لها: “بدي آجار راكب!”.
يسقط في يدها، تكرر الاتصال دون جدوى، تضطر إلى تعديل الخطة، وتفاوض سائق الباص الكبير على مساعدتها في حمل الصندوق مقابل الكثير من عبارات الشكر والرجاء والاستعطاف، لكنه يعلمها بأن الخط الجديد لا يمر بشارع الثورة، ويقترح عليها استئجار تكسي! ترمي بعض العبارات الساخطة ودموعها تسيل بقوة.
يعود الكلب وصاحبه أدراجهما، يبدو أن الزيارة بين الصديقين قد انتهت، يمران من مكان وقوف السيدة وابنتها التي كادت أن تغفو وقد أجلستها أمها ملاصقة للصندوق، يعاود الكلب التقرب ومحاولة شم الطفلة التي كانت منشغلة بتمسيد فستانها الأحمر ونفض غبار الدكة الحجرية عنه، وقد أتعبها طول الانتظار والجوع والنعاس، لكن مرور الكلب وصاحبه أعاد مخاوفها وجفولها. يسحبها الرجل المتقدم في السن ويطمئنها، ينجح في تهدئة روعها، يتركها الكلب بصوت آمر من صاحبه، لكنه يتوجه نحو الصندوق ويشمه، تصرخ المرأة بعصبية بالغة وقهر وهي تدفع الكلب بقدمها ويديها الراجفتين، يقول لها صاحب الكلب: “الكلب لا يأكل عبوات الزيت!”، لكنها تصرخ وباتهام مؤكد: “بلى يأكلها بعيونه”.