أدرك وسيم مقداد تمامًا البروتوكول المُعتَمَد.
فكل أربعة أو خمسة أيام، يتمّ إخراجه من الزنزانة الصغيرة التي يتقاسمها مع أكثر من 80 رجلاً سوريًا آخر، وتُعصَب عيناه. ثمّ يتمّ اقتياده إلى قاعة أخرى، فيتمدّد على طاولة ويأخذ وضعيّته المعتادة: على بطنه، ورجلاه مرفوعتان، مستعدًا لتلقّي الضربات. إلاّ أنّه كان يضع دومًا يديه تحت صدره. وأكّد أنّ أحدًا لن يسلبه إحساسه بذاته، هذا الشعور الذي تضفيه عليه يداه، ولا حتّى بشّار الأسد نفسه.
فقال: “أنا موسيقي، لكنني لم أخبرهم بذلك. أخبرتهم بأنني طبيب، وهذا صحيح أيضًا. كنت أضع يديّ تحت صدري لأحميهما من الضرب. وبذلك لم يعرفوا أنّه يمكنهم أن يؤذوا العضو الأكثر قيمة من جسدي.”
يعزف مقداد، المقيم حاليًا في برلين، على العود ويؤدي أنواع مختلفة من موسيقى، مثل موسيقى الطرب والإيقاع وموسيقى القرون الوسطى.
وفي حديثه عن أهمية مواجهة المعتدين عليه في المحكمة والتحدث علنًا عن الجرائم المرتكبة في سوريا، قال: “مواجهتي كانت نوعًا من التحدّي والمقاومة. لقد قمت بذلك من أجلي ومن أجل العالم أجمع، كي يدرك الفظائع التي ارتكبها النظام.”
في آذار/ مارس، روى مقداد قصته وعزف على العود أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وذلك ضمن إطار حدث نظمه صندوق الأمم المتحدة للتبرعات لضحايا التعذيب. ويركز الصندوق الاهتمام العالمي على احتياجات الناجين من التعذيب ويساعدهم على إعادة بناء حياتهم، بما في ذلك السعي إلى الحصول على التعويض عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تعرّضوا لها.
الولاية القضائية العالمية = المساءلة في أي زمان ومكان
حضر باتريك كروكر وهو محامي مقداد العرض أيضًا. وهو مستشار قانوني لمنظّمة المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، المعنية بحقوق الإنسان ومقرها في برلين.
وقد نجح عملاء كروكر، وهم مجموعة من اللاجئين السوريين في ألمانيا ومن بينهم مقداد، في الحصول قبل أشهر قليلة من محكمة ألمانية على حكم بالسجن مدى الحياة ضد أنور رسلان، الضابط الأعلى رتبة في الجيش السوري المدان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ومنذ بدء عملية التقاضي الاستراتيجي في العام 2018، يتلقى المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان منحًا سنوية من الصندوق. وبدعم من الصندوق، ساعدت المنظمة غير الحكومية 29 سوريًا من الناجين من التعذيب في الإجراءات القانونية، ومن بينهم 14 مدّعيًا مشتركًا. وتم إصدار الحكم باستخدام مبدأ قانوني نادر الاستخدام يُعرَف بالولاية القضائية العالمية.
وتسمح الولاية القضائية العالمية للأنظمة القضائية المحلية في أي بلد بإطلاق إجراءات قانونية ضد جرائم معينة، على أساس أن بعض الجرائم خطيرة لدرجة تتحمل فيها جميع الدول مسؤولية التحقيق فيها. ويمكن التحقيق في هذا النوع من الجرائم، مثل الإبادة الجماعية أو التعذيب، حتى لو لم ترتكب على أراضي الدولة نفسها، أو من قبل أحد مواطنيها، أو ضد أحد رعاياها.
ففي العام 2002، تبنّت ألمانيا قانون الجرائم ضد القانون الدولي، الذي يسمح لمحاكمها الوطنية بسد الثغرات البارزة على مستوى المساءلة عن الجرائم المذكورة، من خلال إجراء تحقيقات ومحاكمات عادلة ومستقلة بما يتماشى مع القوانين والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. كما يستبعد هذا القانون الدولي تقادم تلك الجرائم.
وأوضح كروكر قائلاً: “إنّ هذا المفهوم معتَمَد منذ الحرب العالمية الأولى عندما أدركت الدول من جميع الخلفيات الثقافية والتاريخية والأفكار السياسية والقيم المختلفة أنه لا ينبغي لها ارتكاب جرائم قتل ضد مجموعات سكانية بأكملها. وهذه حقيقة يمكننا الاتّفاق عليها. ولربما قد تمنع الطغاة من الاختباء وراء قناع السيادة، والادّعاء بأنّها مجرّد شؤون داخلية. أتعامل مع شعبي بالطريقة التي أريد.”