بلغ مسار التطبيع بين تركيا والنظام السوري نقطة استعصاء جوهرية بين الأسد الذي طرح آلية هرمية تحت عنوان “أسس ومبادئ” تمثل قاعدة انطلاق، وبين نهج تركي معاكس في الآلية القائمة على لقاء بين أردوغان والأسد ومن ثم الخطف خلفاً. هذا الخلاف لا يعني توقف مسار التطبيع فأنقرة اتخذت نهجاً أكثر براغماتية وأقل أيديولوجية وأعطت الأولوية لمصالحها الوطنية على حساب الالتزامات السابقة، والنظام السوري غير قادر على معارضة المبادرة الروسية في وقت تشنجت العلاقة بينه وبين طهران المنشغلة بحرب محمتلة في الإقليم، وهي حرب ينأى الأسد عنها بالكامل.
بعد أن مد أردوغان يده في تصريح الـ 28 من حزيران بعد صلاة الجمعة، تأخر رد النظام السوري إلى 15 تموز عندما قال الأسد في تصريحات صحفية أثناء الإدلاء بصوته في انتخابات “مجلس الشعب”: “إذا كان اللقاء أو العناق أو العتاب أو تبويس (تقبيل) اللحى يحقق مصلحة البلد سأقوم به. المشكلة تكمن في مضمون اللقاء. لم نسمع ما هو الهدف من اللقاء؟ طرح المشكلة؟ تحسين العلاقات؟”. حينها أعلن الأسد قبوله بالمسار بحذر وأعاد الكرة إلى الجانب التركي لتوضيح مضمون اللقاء والهدف، متمسكاً بعد ذلك بشرطي الانسحاب ووقف دعم فصائل المعارضة.
يمكن النظر إلى مبادرات أردوغان الأخيرة نحو التطبيع مع سوريا باعتبارها جزءاً من تحول أوسع في السياسة الخارجية التركية، يتماشى مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وبالأهم المتغيرات المحلية القائمة على استقطاب الناخب التركي من خلال توظيف المعارضة لملف اللاجئين السوريين، والخلل الحاصل في السياسة الاقتصادية الوطنية التي بدأت بتدهور سعر صرف الليرة التركية بفعل العقوبات الأميركية وزادت بعد سياسة تخفيض الفائدة ومن ثم رفعها بشكل مفاجئ، فحزب العدالة والتنمية الذي ربح في الانتخابات الرئاسية بنسبة طفيفة عُوقب لاحقاً في الانتخابات البلدية.
أما بشار الأسد فلم يعد عليه التطبيع العربي بنفع يذكر، وما زال رهين التجاذبات بين إيران التي تمده بالمال والنفط وروسيا التي تدعمه بالموقف السياسي والحماية الدولية، لكنها تريد عودة الاستقرار إلى بلاد ربضت فيها قاعدتين جويتين وقاعدة بحرية على المتوسط. بعد حرب غزة وتصاعد ارتداداتها في الإقليم، كان واضحاً نأي الأسد بنفسه عن ما يحصل بالمطلق، لكن طهران بحاجة الساحة السورية في سياق رد الدين من النظام لتنضم لساحات لبنان واليمن والعراق.
مكاسب تركيا وحزب العدالة والتنمية من التطبيع أكبر من مكاسب بشار الأسد
مكاسب تركيا وحزب العدالة والتنمية من التطبيع أكبر من مكاسب بشار الأسد، فتركيا لن تنتشل النظام من مأزقه الاقتصادي والسياسي، لأن العرب الذين كانوا متحمسين للتطبيع لم يضروا النظام بشيء ولم ينفعوه، في حين قد تكسب أنقرة التزامات من الوسيط الروسي بالتضييق على “قوات سوريا الديمقراطية” وضمان مناطق آمنة لإعادة نسبة من السوريين في تركيا إليها. هذا الفارق في المكاسب يفسر المبادرة والاستعداد التركي في التطبيع، بينما يماطل الأسد في آلية “الأسس والمبادئ”.
خارطتا طريق تقتربان من الالتقاء
سرب الإعلام التركي تفاصيل خطة التطبيع التركية، بعضها تطابق وآخر تعارض، وكلها لم تحمل طابعاً رسمياً، حتى خرج وزير الخارجية التركي حقان فيدان في الأول من آب الجاري بلقاء صحفي مطول وضع فيه النقاط على الحروف.
حقان أول من التقى النظام السوري عندما كان رئيس الاستخبارات التركية ويعرف النظام المنخور داخياً جيداً وعقليته الأمنية وطرق تفكيره. في اللقاء أوضح عدداً من النقاط تمثل خريطة الطريق التركية لعودة العلاقات مع النظام:
عدم وجود جدول زمني واضح في الوقت الحالي للقاء بين أردوغان والأسد، هنالك فقط إعلان عن وجود إرادة للقاء
النظام السوري منفتح على التفاوض، ولم نُبلّغ بأي شروط مسبقة حتى الآن (لا توجد شروط مسبقة لبدء اللقاءات التفاوضية)
خذوا لاجئيكم، ودمروا الإرهابيين في أرضكم، ونحن سنسحب جنونا
دعنا نرى المؤشرات بأنك ستنشئ هيكلاً إدارياً لن يرسل لنا لاجئين مرة أخرى ولن يشكل تهديداً أمنياً
عندما يطرح النظام السوري الشروط، لدى تركيا المزيد من الشروط
شروط النظام السوري بانسحاب القوات التركية من سوريا يتطلب إجراء مفاوضات لتحقيق ذلك
صنع السلام مع المعارضة هو مشكلة النظام السوري. “أشجعهم لكن لا أجبرهم. لا يمكننا أن نتفق مع النظام ونتجاهل المعارضة، فهذا ليس منطقياً. ما نريده من النظام هو مواجهة المعارضة ورؤية المشاكل والبدء بالمفاوضات للحل”. معتبرا أنه في حال حدوث ذلك، فإن الاجتماعات قد تُعقد في دولة ثالثة، لكنه أكد أن الأمر غير واضح حتى الآن
“الروس قالوا إن إيران يجب أن تكون على الطاولة، وقلنا إننا كنا نفعل ذلك من قبل”. وأكد فيدان أن الأولوية بالنسبة لأنقرة ليست من يجمعهم بل في “اللقاء” بحد ذاته
تركيا ليست في موقف ضعيف بشأن الأزمة السورية، لكنّها ترغب في إيجاد حل
ومنتصف شهر تموز الفائت، أكّد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في لقاء مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان في إسطنبول بأنّ اتصالاتهم مع النظام السوري، خلال الفترات الماضية، لم تأتِ بنتائج إيجابية، مشيراً إلى أنّ الأزمات في سوريا تحتاج زمناً طويلاً لحلّها. في إشارة إلى أن تركيا مستعدة ولديها الإرادة لكن قطار التطبيع سيكون بطيئاً.
تصريحات فيدان كانت بمثابة طرح وخطة أو خارطة طريق، وهي تفسير تقني وآلياتي يلغي نهج أردوغان الذي وصفه الأسد بأنها “تبويس لحى”. وبعدها بتسعة أيام التقى فيدان قادة المعارضة السياسية السورية باجتماع رسمي.
تصريحات فيدان كانت بمثابة طرح وخطة أو خارطة طريق، وهي تفسير تقني وآلياتي يلغي نهج أردوغان الذي وصفه الأسد بأنها “تبويس لحى”
أما من طرف النظام السوري، فالتزم بالخطاب الرسمي وابتعد عن التسريبات وحافظ على شرطي الانسحاب التركي من سوريا و”وقف دعم التنظيمات الإرهابية” في إشارة إلى فصائل المعارضة. لحين ظهور بشار الأسد يوم الأحد الفائت في “مجلس الشعب” وأفرد مساحة للحديث عن مسار التطبيع مع تركيا وقدّم طرحه بشأن ذلك وفق ما يلي:
تعاملنا مع المبادرات التي طرحت بشأن العلاقة مع تركيا بإيجابية ومن دون تفريط لكنها لم تحقق أية نتيجة تذكر على أرض الواقع
الوضع الراهن المتأزم عالمياً وانعكاساته علينا يدفعنا للعمل بحركية أسرع من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه بعيداً عن مشاعر الأسى وآلام الجروح من طعنة شقيق أو غدر صديق
كل يوم مضى من دون تقدم كان الضرر يتراكم ليس على الجانب السوري فحسب، وإنما على الجانب التركي أيضاً بحيث لم يعد ممكناً إغفاله أو إنكاره
التراجع عن السياسات التي أدت إلى الوضع الراهن، وهي ليست شروطاً، وإنما هي متطلبات من أجل نجاح العملية، وهذه المتطلبات تحمل في داخلها الكثير من العناصر الهامة
في المبادئ فأية عملية تفاوض بحاجة إلى مرجعية لكي تنجح، بحاجة إلى مرجعية تستند إليها لكي تنجح وعدم الوصول إلى نتائج في اللقاءات التي حصلت سابقاً هناك عدة أسباب ولكن أحد أهم الأسباب عدم وجود مرجعية لتلك اللقاءات، هذه المرجعية قد تستند إلى عدة أشياء.. أشياء يتفق عليها بين الأطراف المختلفة، قد تستند إلى القانون الدولي، قد تستند إلى ميثاق الأمم المتحدة، قد تستند إلى عدد من العناوين التي تهم كل طرف من الأطراف، على سبيل المثال ما يصرح به المسؤولون الأتراك بشكل مستمر هو موضوع اللاجئين وموضوع الإرهاب، وما تصرح به سورية بشكل مستمر هو موضوع الانسحاب من الأراضي السورية وموضوع الإرهاب أيضاً، نحن لا نعتقد أنه لدينا مشكلة في كل هذه العناوين الأربعة سواء العناوين السورية، أو العناوين التركية
عندما يتم الاتفاق على هذه العناوين يجب أن يصدر بيان مشترك من خلال لقاء بين المسؤولين في الطرفين بمستوى يحدد لاحقاً، هذا البيان المشترك يتحول إلى ورقة تشكل ورقة مبادئ هي التي تشكل القاعدة للإجراءات التي يمكن أن تتم لاحقاً بالنسبة لتطوير العلاقة أو الانسحاب أو مكافحة الإرهاب أو غيرها من العناوين التي تهم الطرفين
أهمية هذه الورقة وهذه المرجعية أنها تنظم المفاوضات، تمنع المناورة أو المزاجية من أي طرف، وبالوقت نفسه تشكل أداة يستند إليها أصحاب المبادرات وتساعدهم على النجاح في مساعيهم، فإذاً المرحلة الآن التي تتحدث عنها سورية هي مرحلة الأسس والمبادئ لأن نجاحها هو الذي يهيئ لنجاح الإجراءات لاحقاً
غير صحيح ما يصرح به بعض المسؤولين الأتراك من وقت لآخر، أن سورية قالت إن لم يحصل الانسحاب فلن نلتقي مع الأتراك، هذا الكلام بعيد كل البعد عن الواقع
في حديث بشار الأسد فصل بين الشروط والمتطلبات، فالانسحاب ووقف دعم فصائل المعارضة من وجهة نظره ليست شروطاً، إنما متطلبات دون تفاوضية، لأنها الأسباب في انقطاع العلاقات، وفي الوقت نفسه أوضح الأسد أن الانسحاب ووقف دعم المعارضة ليسا شرطين لبدء اللقاءات إنما شرطان لعودة العلاقات إلى ما كانت عليه.
قطار بطيء مثقل بالاختلافات والتوقعات
بعد تصريحات بشار الأسد بثلاثة أيام نقل الإعلام الرسمي التركي عن مصادر من وزارة الخارجية التركية أن مسار تطبيع العلاقات مع النظام السوري يتضمن “تطهير الأراضي السورية من العناصر الإرهابية لضمان وحدة وسلامة الأراضي السورية، وتحقيق توافق وطني حقيقي في سوريا يستند إلى مطالب الشعب السوري الشرعية، وذلك وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254”.
وأضافت المصادر أن “توفير الظروف اللازمة لعودة آمنة وكريمة للاجئين، واستمرار تقديم المساعدات الإنسانية دون انقطاع” يعدان جزءاً من هذا المسار.
وأوضح أن عملية التطبيع بين أنقرة ودمشق ستبدأ بلقاءات بين نواب رؤساء أجهزة الاستخبارات، ثم تتصاعد إلى مستوى رؤسائها، وإذا ما توافرت الظروف المناسبة، قد ترتقي المفاوضات إلى مستوى الوزراء كما حدث في عام 2023. وإذا توصل إلى اتفاق، فمن المتوقع عقد اجتماع على مستوى القادة.
تتقارب تركيا والنظام السوري مع مرور الزمن في الآلية والتفاصيل لبدء اللقاءات وتحديد النقاط التي ستضخع للمفاوضات، لكن لا يزال الطريق بينهما محفوفاً بالتحديات وعدم اليقين. ويعكس الجمود الحالي الاختلافات الاستراتيجية والأيديولوجية والجيوسياسية العميقة بين الطرفين. ويمكن تفسير التصريحات التركية الأخيرة يوم الأربعاء الفائت أنها رفع لسقف التفاوض وتطمين للمعارضة وطرح أكثر واقعية لكنه يصعّب المسار أكثر ويجعله أبطأ.
تركيا تكشف عن خارطة طريق التطبيع مع النظام
ويضاف إلى المعادلة توقعات كل طرف، فأنقرة تعرف عدم قدرة النظام العسكرية على ضرب “قسد” حتى وإن انسحبت الولايات المتحدة من سوريا، وعدم قدرته على إحكام سيطرته على البلاد وتأسيسي اقتصاد يمنع الهجرة وتعديل سلوكيات جيشه وأمنه وبالتالي عدم قدرته على تقديم ضمانات بوجود مناطق آمنة يعود إليها السوريون من تركيا. أما من ناحية النظام ففتح الطرق التجارية مع تركيا لن يعود بفائض مالي كاف ينقذ النقص الكبير في القطع الأجنبي السوري، أو يحرك أسواقاً كبيرة في سوريا، كما أن تركيا ملتزمة باتفاقات وقف إطلاق النار وبالتالي كبح الفعالية العسكرية لفصائل المعارضة، وهذا يجعل النظام السوري مرتاحاً من غياب تهديد من شمال غربي سوريا عليه في الوقت الحالي.
النظام السوري ربط قبوله بعودة اللاجئين من دول الجوار وأوروبا بشرط إعادة الإعمار، والممولون يشرطون إعادة الإعمار بتحقيق حل سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254. ولذلك ليس للنظام السوري الرغبة او القدرة حالياً على استعادة سيطرته على شمال غربي سوريا، خاصة أن التمويل الأممي لسوريا تتسع فجوته كل عام، ولا تزال خطة الاستجابة الإنسانية لسوريا تعاني من نقص كبير في التمويل، حيث تم تمويلها بنسبة 21٪ فقط
المصدر تلفزيون سوريا
عبدالله الموسى