تواجه الديمقراطية الحديثة تحديات جمة في البيئات المجتمعية المنغلقة، حيث تتعارض المبادئ الأساسية للديمقراطية، مثل الشفافية والمساءلة والتعددية، مع الخصائص الهيكلية للمجتمعات التي تعاني من الانقسامات العرقية أو الطائفية أو المناطقية.
إن محاولة تطبيق الديمقراطية في مثل هذه السياقات غالباً ما يؤدي إلى نتائج مشوهة تفرغ الديمقراطية من محتواها الفعلي وتحولها إلى مجرد قشرة شكلية تخفي تحتها بؤس الواقع الاجتماعي والسياسي.
**الهيكل الاجتماعي وعوامل الانغلاق**
- الانغلاق الاجتماعي في مجتمعات معينة قد يكون نتيجة لعوامل تاريخية أو ثقافية أو اقتصادية أو مزيج منها.
- في هذه المجتمعات، يُنظر إلى الهوية الجماعية من منظور ضيق، مما يعزز الانقسامات الداخلية ويضعف الوحدة الوطنية.
- على سبيل المثال، في المجتمعات التي تنقسم فيها الولاءات بناءً على العرق أو الطائفة، يصبح من الصعب بناء توافق سياسي يعكس الإرادة العامة.
- بدلاً من ذلك، يتم تعزيز الزعامات المحلية أو الطائفية التي تسعى إلى تحقيق مصالح جماعاتها على حساب المصلحة الوطنية.
**التأثيرات السلبية للديمقراطية المشوهة**
عندما يتم فرض نظام ديمقراطي على مجتمع غير مستعد لتقبله، تنتج لدينا قيادات مشوهة تعكس الانقسامات الموجودة بدلاً من تجاوزها.
هذه القيادات غالباً ما تعتمد على الخطاب الشعبوي الذي يعزز من الانقسامات ويعوق التنمية الشاملة، بالإضافة إلى ذلك، تسهم هذه الديناميكيات في انتشار الفساد والمحسوبية، حيث تصبح المؤسسات الديمقراطية أدوات لتحقيق المكاسب الشخصية والفئوية بدلاً من كونها وسيلة لتحقيق العدالة والمساواة.
**الحلول الممكنة والتوجهات المستقبلية**
لمواجهة هذه التحديات، يجب اتباع نهج تدريجي ومتكامل يعمل على إصلاح البنية المجتمعية قبل الشروع في تطبيق الديمقراطية. من الضروري تعزيز التعليم المدني وتنمية الوعي السياسي لدى المواطنين لتعزيز روح المواطنة والانتماء الوطني.
بالإضافة إلى ذلك، يجب العمل على بناء مؤسسات قوية ومستقلة قادرة على حماية الحقوق والحريات وضمان الشفافية والمساءلة.
تجارب الدول الناجحة في هذا المجال تشير إلى أهمية القيادة السياسية الحكيمة التي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار وتعمل على تجاوز الخلافات والانقسامات من خلال سياسات شاملة ومستدامة.
في نهاية المطاف، لا يمكن تحقيق ديمقراطية حقيقية وفعالة إلا في مجتمع يتسم بالانفتاح والتعددية وقبول الآخر.
دروس من التجارب العالمية؛
لنأخذ مثالاً من العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، حيث تم فرض نظام ديمقراطي في مجتمع منقسم طائفياً وإثنياً. بالرغم من الجهود الدولية لإقامة نظام سياسي تعددي، إلا أن النتائج كانت مشوهة إلى حد كبير.
التصويت الانتخابي تحول إلى أداة لتكريس الولاءات الطائفية والعرقية، مما أدى إلى ظهور قيادات تعتمد على تعزيز الانقسامات بدلاً من تجاوزها، هذا الوضع أدى إلى زيادة الفساد وتعميق الأزمات السياسية والاجتماعية.
في المقابل، يمكن النظر إلى تجربة جنوب أفريقيا بعد نهاية نظام الفصل العنصري كحالة نسبية من النجاح.
إن القيادة الحكيمة لنيلسون مانديلا والتركيز على المصالحة الوطنية والبناء المؤسسي ساعدت على تجاوز بعض من الانقسامات العرقية والتأسيس لنظام ديمقراطي قادر على تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية.
بالرغم من استمرار التحديات، إلا أن التركيز على الوحدة الوطنية والعدالة الانتقالية كان له دور كبير في تعزيز الاستقرار النسبي.
تجارب الدول الناجحة في هذا المجال تشير إلى أهمية القيادة السياسية الحكيمة التي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار وتعمل على تجاوز الخلافات والانقسامات من خلال سياسات شاملة ومستدامة.
القيادة التونسية بعد الثورة، رغم التحديات الكبيرة، أظهرت نموذجاً لمحاولة التوازن بين القوى المختلفة وتحقيق استقرار نسبي من خلال التوافقات السياسية.
الديمقراطية المأمولة في الحالة السورية؛
تعد الديمقراطية مفهومًا معقدًا في الحالة السورية الانتقالية، حيث أن المجتمع الذي خرج من حروب وفوضى يتطلب نظامًا دقيقًا وقويًا لضمان الاستقرار والأمان.
يتطلب الأمر وجود آليات عسكرية فعّالة لسحب السلاح المنفلت والعشوائي، والسيطرة على الفصائلية التي صادرت دور الدولة.
- إن إنشاء مركزية دولة موثوقة تشرف على عملية الانتقال الديمقراطي هو ضرورة لا غنى عنها.
- إن التحديات التي تواجه سوريا في هذه المرحلة تتطلب نوعًا من القسوة والانضباط لتحقيق الأمن والاستقرار.
- يجب أن تكون هناك قوة عسكرية قادرة على فرض النظام والقانون، والعمل على نزع السلاح من المجموعات غير النظامية لضمان أن تكون الدولة هي السلطة الوحيدة المخولة باستخدام القوة.
في ظل هذه الظروف، فإن التسرع في تطبيق الديمقراطية بدون وجود أساس قوي من الأمن والاستقرار قد يؤدي إلى مزيد من الفوضى والعنف.
لذا، يجب التركيز على بناء مؤسسات الدولة وتعزيز قدرتها على فرض القانون والنظام، مما يمهد الطريق لانتقال ديمقراطي آمن ومستدام.
قد يكون المجلس العسكري الانتقالي الذي يعمل جنباً إلى جنب مع النخب السياسية الوطنية هو الصيغة الملائمة للحل في المرحلة الانتقالية القادمة.
الخلاصة؛
إن التحديات التي تواجه الديمقراطيات في المجتمعات المنغلقة تتطلب تفكيراً عميقاً وإصلاحات جذرية.
تطبيق الديمقراطية بشكل غير مدروس في هذه البيئات يؤدي إلى نتائج مشوهة تزيد من تعقيد الوضع وتفاقم الانقسامات، لذا يجب التركيز على تهيئة البنية المجتمعية وتعزيز الوعي المدني والسياسي كأساس لبناء ديمقراطية حقيقية ومستدامة.
إن الدروس المستفادة من التجارب العالمية تؤكد أن النجاح يعتمد على تبني نهج شامل ومتكامل يركز على المصالحة الوطنية وبناء مؤسسات قوية ومستقلة وقادرة على تحقيق العدالة والمساواة للجميع.
مصطفى الفرحات
كاتب سوري