رمزية لافتة أن اختير معهد العالم العربي ليضم اجتماعات مبادرة “مدنية”، وهي خطوة لافتة في دفعها للأمام، ولا سيما في توقيتها بعد أن عاد الحُكم ممثلا للدولة السورية في جامعة الدول العربية، وكذلك في تمحورها حول عنوان لافت هو “الأحقية السياسية للفضاء المدني السوري”.
وهذا الحدث بما سبقه وتلاه فرصة للنظر فيما ينبغي للوصول إلى مستقبل سوري طال انتظاره من ملايين القابعين على قارعة الحياة التي يرونها من زاوية عمر يتسرب، وعيشٍ قاسٍ مترعٍ بالقلق والتوتر، يكاد يشمل كل السوريين في مناطق سلطات الأمر الواقع، وفي مخيمات اللجوء، وحتى المقيمين في الخارج، والحاصلين على جنسيات مختلفة، بغية استشراف ثنائية الأحقية والاستحقاق، وأيهما المؤثر؟ وأيهما ينبغي أن يتأثر؟ وكيف؟ وإلى أي حد؟ بعيدا عن جدلية العربة والحصان.
وما يتحدث عنه كل أطراف المشهد السوري وكل النافذين فيه عن أهمية ولزوم حل سياسي سوري-سوري أو ما يوصف بعبارة “بقيادة سورية”، هو في واقع الحال ليس أكثر من كلام لملء الفراغ وتمرير الوقت وللاتكاء عليه حين تحين ساعة الفعل وترجمة الأقوال إلى أفعال على الأرض العطشى لإنصاف واستقرار وسلام ملَّ السوريين من مجرد التأكيد عليه والقلق بشأنه وهم يعانون من وطأة المناورات على الوقت.
ولا شك أن استحقاقات الخلاص السوري تبحث عن حواملها الوطنية التي تصطف وتتكاتف لأجل وطن جريح وشعب كسير، وهي استحقاقات لا تبحث عن السياسة بقدر ما تهتم بالضغط نحو ما يتوجب فعله لإحقاق الحقوق وجبر الأضرار وفتح الباب أمام مستقبلٍ ليس في طياته ما يعيد تكرار الفاجعة، مستقبلٍ يصوغ وطنية لا إقصاء فيها أو تمييز، ويقوم عليه من يكرس جهده لصالح وطن منسجم مع مقوماته ومتصالح مع محيطه باعتبار ذلك بوابة الخلاص.
والأحقية هنا ليست لمن يطلبها بل لمن يبادر لخلق واقع جديد، ولتغيير قواعد اللعبة لإخراج سوريا من “ستاتيك” اللا حلّ، ويؤمن بما يفرض ذلك من استحقاقات ويجتهد في الوفاء بها، وهذا مدخل بناء الأحقية في وجدان الشعب وضمير التاريخ.
ثمة عوامل تستدعي الانتقال في التفكير والعمل لآفاق تتجاوز التنافس أو التدافع على ما يسمى التمثيل السياسي، إذ إن الواقع حقيقة يعاني غياب الفعل والتأثير، وجلُّ ما يفعله السوريون على اختلافهم هو التفاعل إن لم يكن التماهي مع المتغيرات الدولية والتحولات الإقليمية، تفاعل من يفترض الأحقية على حساب الاستحقاقات.
وقد شغل السوريون العالم وأبهروه حينما ترجموا رؤاهم للمستقبل في تعابير مدنية سلمية تتخذ من مختلف أدوات التعبير والتأثير السياسي الراغب في خلق واقع جديد هتفوا له طويلاً هتافهم الشهير “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، وسرعان ما انزلقت سوريا في مواجهات دامية تحت وهْم الخيار الصفريّ، والمحصلة أن سوريا هي التي خسرت الكثير بكل أطرافها ومقدراتها ومقوماتها، وما زالت أحلام تحقيق ما لم يتحقق بالسلاح والعنف الشديد تفرض واقعا يناور للتسويف، وتفريغ أي جهد حقيقي من استحقاق بناء وفاق وطني.
وليس سرا أن ما يسمى الحل السوري-السوري هو كلام “سريالي” بعيد عن الواقع، وأنه لن يتم إلا بالتكامل مع جهود وضغوط خارجية تضع مختلف الأطراف على طاولة مستديرة في مسار لا بد منه ولو لم يحقق لأي طرف سقف ما يسعى له ولكنه يحقق لسوريا -الوطن- كل ما تطمح له، وما زال كل ذلك بعيدا في ظل الواقع الدولي المتشنج والتأثر الإقليمي بالتحولات الدولية، والحاجة لدور دولي مكمِّل حتى يتحقق حل سياسي سوري ناجز يحمل صفة الاستدامة ويقدم بوادر الاستقرار والانتقال لرتق الجراح.
وهو ما لن يتحقق بتلكؤ سوري وتفريغ الوقت من كوامنه التي ستأتي بممهدات الحل وممكناته في كل مناطقه، ووعي قواه وروافدها بأهمية شغل الوقت بتلبية استحقاقات الحل المستدام التي تقود باتجاه المتطلبات الاجتماعية والثقافية والميدانية للحل، وهنا لا بد من التأسيس على أن الوعي بأن الخلاص هو نتاج الواقعية وأنه لا بديل عن تلاق سوري قد ساد معظم السوريين جراء معاناتهم، وفي هذا أحد أساسيات الحل وعوامل تحقيق الاستقرار.
ليس سرا أن ما يسمى الحل السوري-السوري هو كلام “سريالي” بعيد عن الواقع، وأنه لن يتم إلا بالتكامل مع جهود وضغوط خارجية تضع مختلف الأطراف على طاولة مستديرة في مسار لن يحقق لأي طرف سقف ما يسعى له لكنه سيحقق لسوريا الوطن ما تطمح له
وهنا تبرز أهمية المبادرة ليباشر الجميع اليوم بما يطالبون به غدا من آليات وممارسات سياسية واجتماعية وحتى ثقافية، ولإعلاء الحس الوطني في كل ملمح، وللتخلي عن الاصطفاف والعنتريات والنعرات التي ستُقهر وستتقهقر حينما يعود للوطن التئامه وللشعب انتظامه في إطار اجتماعي سياسي وطني جامع، ويباشر بإطلاق ممكنات التنمية الشاملة ومعالجة ما دمرته سنوات العنف.
فلا يمكن الحلم بالتعددية السياسية غدا إن لم تتحقق اليوم، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا باعتراف معتبر ومتبادل بين كل من يسمّون أنفسهم قوى سياسية، ولا بد لهذا من معايير ونواظم معترف بها، ولا بد لتلك القوى من رؤى جامعة ومشتركات تسعى لها من خلال التوافق على أسس ومقومات تكون عماد الدستور السوري المقبل، ويكون هدف تحققها هو محور الحراك السياسي والاجتماعي.
ولا يمكن الحلم بمجتمع يعي قيمة السياسة، ويتفهم دوره الحيوي في صياغتها وصيانتها ودفعها من دون تبلور مجتمعٍ مدني غير متحزب ولكنه معنيٌّ بالعملية السياسية لتكون ضمن إطار وطني صحي يضمن تعدديتها وتنافسها لصالح المجتمع وليس على حسابه، ودافعٌ باتجاهها باعتبارها خيارا وطنيا يعني كل السوريين وينعكس عليهم، ولا يهدأ حراكه حتى يتحقق للمستقبل السوري مقوماته وأركانه.
وكما لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل ممارسات لا ديمقراطية، فلا يمكن بناء شرعية المستقبل على ماضٍ تآكلت مقتضياته جراء العجز عن تقديم بديل، رغم إيمان الكل أنه يقبع على برميل من البارود، وأنه يقيم حاضره ويناور لمستقبله بناء على مقومات ظرفية زائلة، وليس فيما يتمسك به سوى المزيد من المعاناة والانحدار في واقع السوريين.
ولا مخرج من هذه الحالة وهذا النزيف الصامت إلا بدفع سوري رائد يترجم اجتماع الروح المدنية على المشتركات الوطنية بضغط على السياسة وقواها حتى تنخرط في مسار جاد يفرز حياةً أفضل لكل السوريين، وهذه الروح بقوتها ليست من السياسة بقدر ما هي تعبير عن الانتماء الذي يعلو على السياسة ويوجهها في إطار استحقاقاتها الواجبة عليها تجاه الأرض والإنسان.
ربما تفصل السوريين سنوات عن رؤية الانتقال إلى حل سياسي يتوقون إليه، وهم الآن في سنوات الولاية الدستورية الأخيرة التي رسمها دستور 2012، وهم بذلك أمام استحقاقات لا يلبيها التدافع لتمثيل سياسي بقدر ما يحققها التكاتف لأجل فعل سياسي شجاع يؤسس على فهم مستجدات الواقع والدوافع إليه، ويستشرف تداعياته ومآلاته، ويستخلص ممكناته في مساحة التقاطع بين الوطني والإقليمي والدولي، حتى يتعزز ما من شأنه الاقتراب من لحظة الدفع نحو الحل، وهو جهد يجعل وقت الانتظار السوري وقتا ثمينا لأنه يمتلئ بمراكمة ما يكفل عدم العودة لدوامة العنف والتدمير.
ما يملأ المشهد السوري هو مساعي التطبيع والضغوط لإعادة اللاجئين، وهما أمران لا يتحققان إلا بتوافق دولي، يصعب أن يتجاوز ما قررته الأمم المتحدة ابتداء من نقاط كوفي عنان ووصولاً للقرار 2254، وما أفرزته من تقارير حول حقوق الإنسان والانتهاكات، والتي لا بد من اعتبارها بقدر ملموس حتى تحافظ على كينونتها ومبرراتها الأخلاقية والقانونية.
ربما تفصل السوريين سنوات عن رؤية حل سياسي يتوقون إليه، وهم الآن في سنوات الولاية الدستورية الأخيرة التي رسمها دستور 2012، إزاء استحقاقات لا يلبيها إلا التكاتف لأجل فعل سياسي “شجاع”
ولذلك فما زال للزمن دورته حتى يتحقق الخلاص السوري، ولأجله يتعين على السوريين وعلى قواهم المدنية أولاً أن ينظروا إلى القرارات الدولية كمنجز تحقق نتيجة تضحيات الشعب، وكتعبير دولي عن تطلعاتهم المشروعة، وكأداة تعزز فرص الانتقال إلى وطن يعتبر مواطنتهم وتساويهم في أرضهم ودولتهم، ويعيد سوريا فاعلا إيجابيا ضمن محيطه، كما يتعين عليهم ألا يكتفوا باعتبار تلك القرارات مصدرا لأحقيات، ومستندا لاستحقاقات يتنازعون عليها، فيشغلوا أنفسهم ويقزموا ممكناتهم ويهدروا فرصا للخروج من وضع قلق وهش ومنذر بالانزلاق نحو أزمات جديدة.
وعليهم أن يترجموا تطلعاتهم على الأرض، ولا يكتفوا بالبحث عنها في المؤتمرات وكواليس السياسة، وأن يبدعوا في كل ما من شأنه تحقيق البيئة الآمنة التي لا تحتكم لسلطة أمر واقع، ولا تؤسس على اعتبارات “دون وطنية” سواء كانت فئوية أو مناطقية أو غير ذلك، ولا تقوم على قوة السلاح. هذه البيئة ينبغي أن تكون الحاضر الحاضن لملايين السوريين الذين تهدر طاقاتهم في سراديب الانتظار، وتكون جزءا من الفعل الممهد للمستقبل السوري السيد على أرضه والمستند إلى الإرادة الحرة لعموم السوريين.
ولا شك أن قوى المجتمع المدني في الشمال السوري بكليّته هي المعنيّ الأول بخلق تلك البيئة الاجتماعية السياسية الأكثر استقرارا وعطاء وأقل اعتمادا على مساعدات الخارج عبر النظر في توظيف الممكنات الاقتصادية في هذا الإطار، وتقديم نموذج متقدم لوعي وطني سوري يسعى لتحقيق تطلعات الداخل، وتخفيف هواجس الخارج، بما يعزز فرص بلوغ حل سياسي حقيقي سيحتاج للكثير من البذل والعناء، ولا بد لهذا الحل من “شجعان” يؤمنون بالأحقية الوطنية وبأهمية الوفاء باستحقاقات هذه الأحقية اليوم قبل الغد.