كان لافتا وبشدة هذا الازدحام الضخم على أبواب مراكز تحويل الأموال، لم تتوقف عجلة التحويل يوما من خارج سورية إلى الداخل حسب ما صار متعارفا عليه، ثنائية الداخل والخارج باتت واقعا ملموسا ومتحكما بعجلة الاقتصاد وبدورة الحياة اليومية، لكن هذه الظاهرة تزداد بشدة في مواسم الأعياد وفي شهر رمضان أيضا، لكن عجلة التحويل تكثفت وزادت في العامين الأخيرين بصورة ملحوظة، ليس بسبب وجود أعداد غفيرة من السوريين والسوريات خارج البلاد، ولا لأن أغلبية العائلات الباقية هنا ترتبط بصلة قرابة من الدرجة الأولى مع المرسلين أو المحولين عبر هذه المراكز أو المانحين بشكل مباشر، بل لأن الحاجة المادية باتت سيدة الأسباب، ولم يعد ممكنا إتمام دورة الحياة دون هذا المد المالي المتواتر والكبير.
ثمة شوارع كبيرة أغلقها طوفان الناس المنتظرة، والازدحام هنا مختلف عن ازدحام في أماكن أخرى تسببت بموت المنتظرين كحادثة وفاة أكثر من مائة يمني بانتظار قسائم مساعدات العيد، لكن ومع هذا لا يمكننا القول إنه ازدحام سعيد، فالخيبة تلتهم حرارة الفرح بالأموال المستلمة، ثمة مصاريف كبيرة تنتظر الدفع، والجيوب التي بدت متضخمة وبارزة ستفرغ قريبا جدا وسيأكل الغلاء والتضخم كل الواردات مهما بدت كبيرة ومجزية حين استلامها.
انتظر البعض لساعات طويلة وخاصة النساء اللاتي تذمرن من حقيبة اليد الكبيرة التي اضطررن لحملها لحمل النقود، فقد تخلت غالبية السوريات عن حمل حقائب كبيرة، لقلة المتوفر أولا ولتتخفف من عناء حملها في خضم حركة يومية سريعة وقلقة.
شهدت أجواء الانتظار مسحة بسيطة من روح الدعابة الساخرة، لكنها روح تكرس حقيقة العجز، كعبارات: (ليش مكبرة الجزدان) كدلالة على ضآلة المبالغ المحولة أو تهافت قيمتها الفعلية أو عبارة (دير بالك النشالة كثار) والأبرز عبارة: (خبي نصهن، للأسبوع القادم) كدلالة على سرعة الزوال بسبب كبر الاحتياج والغلاء الفاحش.
أعياد السوريين والسوريات مختلفة جدا، كما حيواتهم الشقية، وربما يقضي بعضهم يوم العيد بكامله منتظرا على باب أحد مراكز التحويل ليشعر بالعيد
على باب أحد المراكز رجا فتى أمه لتعطيه مبلغ مائة ألف ليعدها، وبعد أن قام بعدها عدة مرات رجا أمه أن يحتفظ بها ولو لدقائق في جيب سترته، أما تلك السيدة المتقدمة في العمر فقد وزعت على عدة أطفال متسولين يقفون في المكان مبالغ ضئيلة لكن عملها ذاك دفع المنتظرين للصراخ عليها لتقف خارج الطابور خوفا من النشل لأن الأطفال صاروا ضمن طوابير الانتظار، وإفساحا بالمجال لمكان أرحب يستوعب عددا إضافيا من المنتظرين في طابور جانبي لأن المكان لم يتسع لهم رغم أنه مشغول بستة طوابير.
على ضفاف طوابير التوزيع كان البعض يردد: هنيئا لكل من له أحد يتذكره ولو بمبلغ زهيد، عدا عن غصات صامتة تبادلها بعض العابرين والعابرات وهم يرصدون حلحلة ولو آنية لمشاكل غيرهم، فتحضر مشاكلهم العالقة كغصة في حلوقهم وتندفع المرارة حتى ألسنتهم التي تعالج الفاقة والعجز بالإمعان في الصمت.
صرخت أم بابنتها معاتبة: قلت لك أحضري كيس نايلون أسود اللون وليس شفافا، فضحك بعض المنتظرين وقالوا: لم تعد رؤية النقود مجلبة للحسد، الجميع محتاج وكل التحويلات حل جزئي ومؤقت، أحدهم قال: كل ما استلمته يعادل حبة سيتامول سينتهي مفعولها المسكن بعد ساعات قليلة.
أعياد السوريين والسوريات مختلفة جدا، كما حيواتهم الشقية، وربما يقضي بعضهم يوم العيد بكامله منتظرا على باب أحد مراكز التحويل ليشعر بالعيد، تغيرت الأعياد وطقوسها وتفاصيلها، واختزل معنى العيد بطوابير تنتظر حوالات بعيدة من أشخاص هم أقرباء لكنهم باتوا أبعد وأبعد، تُختزل العلاقة بينهم بحوالات تلامس الجيوب بعد طول انتظار لكنها تتلاشى سريعا وتجعل حتى المعايدة مختلفة ومتباينة تجعل الأعياد برمتها مختلفة وقاسية، أعياد السوريين بالغة الاختلاف حتى ولو امتلأت الجيوب.