بعد عام 2011، ازداد عدد الأطباء الذين تركوا سورية وتوجّهوا إلى ألمانيا التي شرعت أبوابها لاستقبال الهاربين من الظلم والحرب، علماً أنّها كانت تستقبل آخرين في أوقات سابقة
عندما نتحدّث عن الأطباء السوريين في ألمانيا، فإنّ الأمر يتعلّق بكتلة الأطباء الأجانب الكبرى في البلاد، وفق إحصاءات ألمانية رسمية. وثمّة 4486 طبيباً (وفق آخر إحصاء في عام 2019 أوردته المجلة الطبية الألمانية) ينشطون، عدا عن العاملين في المجال الصحي من صيادلة وغيرهم. ومع اندلاع الحرب في سورية قبل نحو عقد، وصل عدد كبير من اللاجئين السوريين إلى ألمانيا. وإن كان من بين هؤلاء عدد من الأطباء، إلّا أنّ العدد الأكبر من الأخيرين وصل بعد الحصول على تأشيرة عمل. فالحقيقة أنّ الأطباء السوريين ليسوا وحدهم الذين كانوا في حاجة إلى ألمانيا للهرب من واقع بلادهم، لا سيّما بعد اندلاع الحرب في عام 2011، بل إنّ الدولة الألمانية كذلك تحتاج إليهم لتعزيز نظامها الصحي، ولذلك تفتح أبوابها لهم، مع العلم أنّ إجراءات عدة يصفها البعض بـ”البيروقراطية”، لا بدّ من أن يمر بها مختلف الأطباء الأجانب قبل الحصول على إذن مزاولة المهنة وتعديل شهادة الطب. هذه الإجراءات التي وقفت بالفعل عائقاً أمام عدد من الأطباء السوريين، تخطاها آخرون وباتوا جزءاً لا يتجزّأ من النظام الصحي الألماني.
في نهاية عام 2019، كان يعيش في ألمانيا نحو 790 ألف سوري، بحسب مركز “ستاتيستا” الألماني للإحصاءات. قبل عشر سنوات، كان العدد أقل من 30 ألف شخص. وتفيد مدوّنة “بايوميد سنترال” المتخصصة في الدراسات الطبية، بأنّ حاجة ألمانيا إلى الأطباء السوريين تعود إلى سببَين. الأوّل، وهو مشترك بالنسبة إلى الأطباء الأجانب بشكل عام، هو حاجتها إلى سد النقص النسبي في عدد الأطباء لديها في خلال السنوات الأخيرة. أمّا السبب الثاني، فمرتبط بشكل أو بآخر بزيادة عدد السوريين في البلاد، ما أدى إلى زيادة الحاجة إلى طاقم طبي يتحدث باللغة العربية، ولذلك فإنّ استقدام الأطباء السوريين يحقق هدفَين في آن.
وعلى الرغم من حاجتها إلى هؤلاء الأطباء، ما زال كثيرون يشتكون من الإجراءات البطيئة والمربكة، كما أنّ ألمانيا بدأت تتشدد منذ نهاية العام 2013 في إجراءات تعديل شهادة الطب للأطباء الأجانب من خارج الاتحاد الأوروبي، ومنهم الأطباء السوريون. وأمام هذا الوضع، وجد الأطباء السوريون حاجة إلى تجميع أنفسهم وتبادل المعلومات والخبرات والتجارب بين بعضهم البعض، وكانت البداية عبر مجموعة على موقع “فيسبوك” تحت اسم “الأطباء السوريون في ألمانيا”، باتت تضم الآن نحو 62 ألف عضو، ليسوا من السوريين فقط وإنما أيضاً من مختلف الدول العربية.
مجتمع إلكتروني
هذه المجموعة ليست جديدة، بل يعود تأسيسها إلى ما قبل اندلاع الثورة في سورية، وتحديداً إلى عام 2009، بحسب ما يقول الطبيب السوري فيصل شحادة، وهو أحد مؤسسي المجموعة ورئيس مجلس إدارة جمعية “الأطباء والصيادلة السوريون في ألمانيا” (قيد التأسيس). ويوضح شحادة لـ”العربي الجديد” أنّ “هذه المجموعة ظهرت لتبادل التجارب في عملية تعديل الشهادات والتحضير للامتحانات المتعلقة باختصاص الطب في ألمانيا، والتي تختلف بشكل جذري من مقاطعة إلى أخرى، ومن موظف لآخر، بالإضافة إلى وجود حاجة إلى تحقيق نوع من التواصل الاجتماعي بين الأطباء السوريين في ألمانيا وتبادل الخبرات في أجواء العمل”. يضيف شحادة أنّ “التفاعل حول هذه المواضيع وغيرها، في المجموعة، كان يجري بشكل متناسق ومتناغم وفي جو إيجابي، إذ كان الزملاء يشاركون تجاربهم بما يتضمن المعلومات المفيدة والأخطاء التي يجب تجنبها، بالإضافة إلى بعض المساعدات اللوجستية. وكانت إدارة المجموعة تحرص دوماً على توجيه دفة السفينة لتعمّ الفائدة على الجميع. هذه العوامل كلها ساهمت في انضمام آلاف الزميلات والزملاء إلى المجموعة. ومع مرور السنين، أضحت مجموعة الأطباء السوريين في ألمانيا مجتمعاً إلكترونياً مصغّراً، نتشارك فيه بعض تفاصيل حياتنا كأطباء في ألمانيا”.
ومن أسباب نجاح المجموعة واستقطابها لهذا العدد الكبير من الأعضاء، هو “تركيزها على ما يجمعنا والابتعاد عمّا يفرقنا ودرء المواضيع الخلافية والتركيز على التقاطعات، كوننا جميعاً سوريين قبل أن نكون أطباء”، وفق ما يؤكد شحادة.
يُذكر أنّ نشاط المجموعة لم يبقَ محصوراً بالفضاء الافتراضي، إذ نُظّم مؤتمر في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2019 جمع نحو 120 طبيبة وطبيباً بالإضافة إلى مشاركين آخرين من فروع الصيدلة وطب الأسنان. وقد تبلورت فيه بحسب شحادة “نواة فكرة تتمحور حول ضرورة وجود كيان يجمع الأكاديميين السوريين من أصحاب المهن الطبية في ألمانيا”. ويلفت إلى أنّه “كان مخططاً لعقد مؤتمر ثان في شهر مارس/ آذار من العام الماضي وقد حُجزت حينها كل المقاعد قبل أسبوعَين من الموعد المقرر، لكنّه ألغي بسبب جائحة كورونا. أمّا المؤتمر المقبل فجاهز من كل النواحي الإدارية والتنظيمية، في انتظار إعادة السماح بعقد اجتماعات ولقاءات لإعلان موعده”.
الكيان الذي تمّ التداول بشأنه في مؤتمر 2019، بات واقعاً، إذ إنّ “جمعية الأطباء والصيادلة السوريين في ألمانيا” على وشك التسجيل رسمياً في الدوائر الألمانية المختصة. وعن هذه الجمعية، يقول شحادة: “هي جمعية أكاديمية وعلمية واجتماعية وتطوعية وغير ربحية، تضم الأكاديميين السوريين العاملين في المجال الصحي من أطباء بشريين وأطباء أسنان وصيادلة من المقيمين في ألمانيا”. ويتابع شحادة أنّ “الجمعية حيادية لا تحمل أيّ طابع أيديولوجي ولا تحتكر تمثيل الأكاديميين الطبيين السوريين، فهي تعمل من ضمن إطار نشاطات المجتمع المدني في ألمانيا وتمثّل أعضاءها والأهداف التي يرسمونها”. ويشير شحادة إلى أنّه “يحق لجميع الأطباء والصيادلة السوريين المقيمين في ألمانيا، سواء أكانوا من الطلاب في الجامعات الألمانية أو ممّن يحضرون لامتحانات التعديل أو العاملين في مختلف المجالات الطبية، الانضمام للجمعية، علماً أنّ الإدارة سوف تتغيّر بشكل دوري عن طريق الانتخاب”. وعن نشاطات الجمعية وأهدافها، يقول شحادة إنّها “ترتكز على ثلاثة أعمدة أساسية. الأوّل، تنظيم اجتماعات لأعضاء الجمعية بهدف بناء الروابط بينهم وتعزيزها وتقديم دعم علمي وأكاديمي. الثاني، يتمثل بدعم الوافدين الجدد إلى ألمانيا وتقديم المشورة لهم لتوضيح خطوات الدخول إلى سوق العمل الألماني والاندماج فيه وتقديم أشكال مختلفة من الدعم لهم. أمّا الثالث، فيتمثل بتعزيز التواصل على المستوى الاجتماعي ومع الصحافة والرأي العام الألماني، وتعزيز التبادل الأكاديمي والعلمي مع المؤسسات والروابط الألمانية”.
تجدر الإشارة إلى أنّ كثيرين من الأطباء السوريين يشيدون بمجموعة “الأطباء السوريون في ألمانيا”، ومنهم الطبيب هاني فتح الله الذي يقول إنّه تعرّف على مختلف آليات تعديل الشهادة، وغيرها من الأمور التي احتاجها في مجال اختصاصه من خلال هذه المجموعة.
رضا عن الوضع
يعبّر أطباء سوريون كثر في ألمانيا عن رضاهم على الوضع الذي وصلوا إليه. ويقول الطبيب حسام طربين، وهو عضو مجلس إدارة في جمعية “الأطباء والصيادلة السوريون في ألمانيا” لـ”العربي الجديد”: “أظنّ أنّ الأطباء والصيادلة السوريين يشكلون اليوم جزءاً مهماً من النظام الصحي الألماني، لا يمكن الاستغناء عنه. فقد تمكنوا بالفعل من تجاوز عقبات الاندماج الاجتماعي والمهني بسرعة كبيرة، وساهموا بقوة في سد النقص الكبير في الكفاءات الطبية، الأمر الذي عاد أيضاً بالنفع على النظام الصحي الألماني، خصوصاً في أوقات الأزمات والأوبئة كالتي نعيشها اليوم”، في إشارة إلى وباء كورونا.
ويثني عدد من الأطباء على ما قدّمته لهم ألمانيا والفرص التي منحتهم إيّاها، على الرغم من التحديات التي اعترضتهم. وفي السياق، يقول الطبيب مالك الأتاسي لـ”العربي الجديد” إنّ وظيفته كطبيب في ألمانيا حققت له الاستقرار المادي على الرغم من أنّه لم ينه اختصاصه بعد. ويوضح أنّ “في سورية، كان من المستحيل أن أستقلّ مادياً، وما كنت لأفكر في الزواج وتأسيس عائلة، خصوصاً في ظلّ الوضع الراهن”. وعلى الرغم من أنّ الأتاسي يقول إنه كان يتمنى لو أنّه أكمل اختصاصه في سورية، فإنّه يشير إلى أنّ “نوعية الطب في ألمانيا والمستشفيات والتقنيات هي أمور نفتقدها في بلدنا، وهي تؤدّي دوراً أساسياً في التعلم وتسهيل الاختصاص”.
ماذا عن العودة إلى الوطن؟
عند سؤاله عن العودة إلى الوطن، يجيب الأتاسي أنّه “ما دامت كرامة المواطن وابن البلد مفقودة في سورية، فأنا لا أفكر في العودة، حتى إذا كانت الأوضاع مستقرة. فالعودة تتطلب وضعاً مادياً وعلمياً قوياً”. يضيف: “أتمنى أن تصير الظروف مهيئة لعودتنا لنشارك في بناء بلدنا وإفادته، لكن للأسف العوامل كلها صعبة إلى الآن”. أمّا الطبيب محمد يونس فيقول لـ”العربي الجديد” إنّ أهم إنجاز استطاع تحقيقه هو أن يصير جزءاً من المنظومة الطبية الألمانية التي يستفيد منها الآن ويطّلع على الخبرات والتقنيات التي توفّرها. بالنسبة إليه من شأن ذلك أن “يفتح لي كثيراً من الأبواب للتطوّر في المستقبل”. وحول تفكيره في العودة إلى سورية، يشير يونس إلى أنّ “العودة إلى الوطن مسألة دائماً في البال، فأنا أتمنى أن أساهم وأوظّف خبراتي في بلدي، لكن عدم الاستقرار والظروف العامة في سورية يجعلان هذا الأمر حالياً شبه مستحيل”.
من جهته، يقول الطبيب أحمد حامد إنّه “في أثناء دراستك للطب تسمع عن تقنيات وأبحاث تجري في الدول المتطورة ومن ضمنها ألمانيا. والأخيرة جعلتني ألتمس وأكون جزءاً من هذا الأمر في خلال إنجاز اختصاصي في مجال الجراحة هنا. فقد استطعت أن أتعلم وأعاين تقنيات غير متوفّرة في بلادنا. كلّ ذلك ساهم في تطويري في المجال الطبي”. وعمّا إذا كانت لديه خطط للعودة في المدى المنظور إلى سورية، يجيب حامد أنّ “العودة إلى الوطن حالياً غير منطقية، خصوصاً في ظلّ الدراسة في ألمانيا والتعلم على تقنيات وأجهزة غير موجودة في سورية”. ويوضح أنّ “مشكلة العودة ليست في العودة نفسها، إنّما لارتباطها بغياب التقنيات التي أستطيع المساعدة من خلالها. فعودتي ستكون كمن يعرف استخدام الحاسوب في حين لا يملك واحداً”، مشيراً إلى أنّ “الكفاءات العلمية الموجودة في البلد ليست أقل شأناً من الكفاءات الموجودة في ألمانيا، فالأطباء في سورية يتعلمون بكثافة لكثرة الحالات التي يعالجونها والتي تمر عليهم، وهذه الكفاءات تقوم بواجبها كاملاً”.