كان حلمه أن يجتاز امتحانات الشهادة الإعدادية بنجاح، وهذا ما فعله محمود ابن الستة عشر عاماً، من مدينة حلب. فقد يبدو ذلك الحلم عادياً لأي فتى في سنه، إلا أن محموداً عمل واجتهد لتحقيق هذا الهدف في عام 2022، وعن تجربته يخبرنا فيقول: “خرجت لأشتري شيئاً، فكان أول شيء تذكرته بعد ذلك هو أني استيقظت لأجد نفسي وسط ظلام دامس”، وذلك لأنه في عام 2014 تعرض لإصابة بشظية من قذيفة سقطت خارج بيته بمدينة حلب، وبسبب تلك الحادثة، خسر محمود بصره في عينه اليمنى، ولم يعد بوسعه أن يستخدم يده وساقه اليسرى.
يروي والده ما جرى لابنه فيقول: “لم يستطع محمود أن يرى شيئاً لمدة أسبوعين بعد الحادثة، إذ عندما استيقظ في المشفى، بقي يسألني عن موعد قدوم الكهرباء، ولم أستطع أن أخبره بأنه فقد بصره ولو لفترة مؤقتة في إحدى عينيه، وبشكل دائم في عينه الأخرى”.
عاشت أسرة محمود تجربة النزوح مرات عديدة بعد تلك الحادثة، وخلال نزوحها، خضع محمود لسلسلة عمليات جراحية في رأسه وذراعه وساقه. وفي عام 2017، تمكنت الأسرة من العودة إلى بيتها. فافتتح والد محمود الذي كان يعمل خياطاً لكنه خسر آلة الحياكة وبقية المعدات خلال النزاع، متجرَ بقالة متواضع ليكسب لقمة عيشه وليؤمن قوت أسرته.
استنزفت سنوات النزاع والنزوح ما تملكه أسرة محمود من مدخرات وأرزاق، كما أن كلفة الرعاية التي يحتاج إليها محمود إلى جانب الوضع الاقتصادي السيء الذي تعيشه البلد، قد جعل الأمور أصعب على أهله.
نور في نهاية النفق
ولكن في أيلول 2021، تواصلت منظمة يونيسيف من خلال مديري الحالات لديها مع أسرة محمود، بما أن الأسرة مؤهلة لبرنامج الحماية الاجتماعية المتكاملة الذي تقدمه اليونيسيف للأطفال الذين يعانون من إعاقات، ومن خلال هذا البرنامج، يستفيد الأطفال من المساعدات النقدية ومن الخدمات التي تقدم لهم لإدارة حالتهم.
استملت أسرة محمود حتى الآن خمس دفعات من أصل ثماني دفعات نقدية، وكل دفعة تغطي نفقات لثلاثة أشهر ضمن هذا البرنامج الذي يمتد لسنتين. فاستعانت تلك الأسرة بالمال لدفع بدل الدروس الخصوصية التي ساعدت محمود على متابعة ما فاته من تعليمه، لأنه لم يعد يرتاد المدرسة إلا لفترات متقطعة خلال فترة النزاع. واستعانت الأسرة أيضاً بجزء من المعونة لتغطية نفقات الرعاية الطبية التي يحتاجها محمود إلى جانب تأمين أدويته، وجبائر خاصة لتدعيم طرفيه المصابين.
الشابة السورية أسماء
تم تعيين هناء، التي تعمل في مجال إدارة الحالات لتهتم بحالة محمود، وهكذا صارت تزور الأسرة بشكل دوري لتقدم لها الدفعات النقدية في الوقت المحدد، ولتضمن حصول محمود على الخدمات التي يحتاجها. إذ تعتمد هناء على شبكة العاملين لدى المنظمات غير الحكومية وفي القطاع الخاص لتساعد محموداً في الحصول على العديد من الخدمات التي لابد له منها. ولهذا رتبت له العديد من مواعيد الإحالة، شملت موعداً عند أحد المتخصصين في مجال الدعم النفسي، وعند طبيب عيون، وعند متخصص بتركيب الجبائر، وعن ذلك تحدثنا هناء فتقول: “سررت كثيراً عندما اتصل بي محمود ليخبرني بنجاحه في الصف التاسع بما أن ذلك كان إنجازاً عظيماً بالنسبة له”.
لم يدخر والد محمود أي جهد في تأمين ما يحتاجه ابنه الصغير، كما أنه أخذ يشجع ابنه على مواصلة تعليمه، حيث قال له عندما قلق محمود تجاه التكاليف التي تتطلبها دراسته في المستقبل: “لا تهمك المصاريف، بل فكر بدراستك ومستقبلك فقط”. وهكذا رفض محمود فكرة عدم الذهاب إلى المدرسة على الرغم من وعورة الطريق المؤدي إليها وعدم توفر مواصلات يمكن أن تنقله إلى هناك.
عبقري في الرياضيات
إلا أن مواظبة محمود ومثابرته أثمرت كل خير، ولهذا يخبرنا بكل زهو بأن معلم الرياضيات قال له: “لقد أذهلتني” وذلك عندما لم يتوقع له أن يحصل على أعلى درجة في مادته متفوقاً على طالبين اثنين غيره، إذ يوجد في صفه خمسون طالباً، لكنه أصبح جاهزاً للتنافس معهم جميعاً في هذه المادة، وحول ذلك يقول: “يجب أن يعرف الجميع بأن هنالك جمالاً في التغلب على مصاعب الحياة وتحدياتها، فهل سمعتم عن الكثير من العلماء والمخترعين العظام الذين كانوا يعانون من إعاقات؟ لقد حققوا أموراً عظيمة، وأنا سأفعل مثلهم”.
يعتبر محمود نفسه قادراً على تحقيق النجاح مثله مثل أي شخص آخر، لأن الأمر يتعلق بمقدار ما يبذله المرء من جهد لتحقيق هدفه، ولهذا يقول: “المعاقون وغير المعاقين سيان، من يعمل بجد أكثر لابد وأن يحقق أكثر”.
محمود وهو يكتب وظائفه
يداوم محمود اليوم في المدرسة في الصف العاشر ويحلم بأن يصبح طبيب أعصاب مثل ذلك الطبيب الذي أشرف على حالته. كما صار لدى محمود أصدقاء جدد في مدرسته الثانوية، إذ بين الحين والآخر يأتي أصدقاؤه إلى بيته ليأخذوه معهم حتى يشاركهم في لعب كرة القدم كحارس مرمى وهذا ما يخلق داخله إحساساً بالمشاركة.
يذكر أنه في عام 2022 استفاد أكثر من 11 ألف طفل سوري من ذوي الإعاقات من برنامج الحماية الاجتماعية المتكامل الذي تقدمه منظمة اليونيسيف والتي تتواصل مع أطفال يعانون من إعاقات شديدة لتقدم لهم معونات نقدية وخدمات متخصصة لإدارة حالاتهم. وتقوم منظمة الإغاثة الإنسانية الأوروبية بدعم نشاطات هذا البرنامج، إلى جانب الاتحاد الأوروبي وحكومة النرويج بموجب البرنامج الأممي المشترك للتأقلم الحضري والريفي، وحكومات أستراليا وكندا وفنلندا والنرويج والسويد واللجنة الوطنية بلوكسمبورغ المعنية بمنظمة اليونيسيف، والوكالة السويسرية للتعاون التنموي، والصندوق العالمي للحالات الإنسانية التابع لمنظمة اليونيسيف.
المصدر: