9874ميسرة بكور / الحليج أونلاين
“الجوع” هو ذلك السلاح الفتاك ذو التدمير الشامل والنتائج الاستراتيجية المبهرة، من خلاله حقق نظام دمشق ما لم يكن يستطع تحقيقه بكل ما حوته ترسانته العسكرية المثخنة بأسلحة محرمة أو مسكوت عنها دولياً، خاصة أنه يتمتع بخصائص فتاكة ترتقي لزمرة القنابل النووية في قدرته الخارقة على سحق الحياة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات.
خمس سنوات انصرمت من عمر سوريا الوطن والإنسان ولم يزل نظام دمشق الحاكم وداعموه من قوى الشر، يتفنون بقتل السوريين وتشريدهم حتى توصلوا لسلاحهم الأكثر فتكاً “الجوع”، والذي أصبح أهم أسلحة نظام الأسد، يشهره متى يشاء في وجه الحاضنة الشعبية الثورية.
وللتذكير، فإن نظام دمشق استخدم سلاح التجويع منذ اندلاع ثورة الشعب السوري ضد حكمه في منتصف مارس/آذار 2011 عندما حاصر مدينة درعا وقطع عنها الماء والغذاء، والكل يذكر “بيان الحليب” الذي أصدره مجموعة من الفنانين السوريين على رأسهم “منى واصف” صاحبة وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، ثم تراجع عنه بعض من يمتهنون مهنة التمثيل على الشعوب.
هذه الاستراتيجية الشيطانية تم تعميمها على بقية الجغرافية السورية الثائرة، فكان ممّا جرى به الركبان وتناقلته وسائل الإعلام حصار أحياء حمص القديمة الذي دام سنتين، وقف المجتمع الدولي متفرجاً يكتفي بالتنديد والشجب والنواح على أطلال مدينة، حتى اضطر المحاصرون أمام فتك الجوع لتسليم الأحياء الحمصية القديمة وفق اتفاق تهجير قسري رعته الأمم المتحدة .
بعد المكسب الكبير الذي حققه نظام دمشق في حمص من خلال سلاح الجوع، حاول تجييره إعلامياً وسياسياً فيما أطلق عليه المصالحة الوطنية، التي أنشأ لها وزارة خاصة أطلق عليها اسم وزارة المصالحة الوطنية، كان حرياً به أن يسميها وزارة الجوع أو الركوع، أو وزارة الإذلال الأسدية.
مع تواتر الأحداث وتراكمها وتعمد ما يسمونها الأسرة الدولية اتباع استراتيجية الصمت الممنهج عن جرائم الأسد، وتسجيل بعض المصالحات القسرية بفضل النجاحات التي حققها نظام دمشق بسلاحه الفتاك “الجوع”، بدا واضحاً أن النظام بات يعتمد على هذا السلاح وجعل منه استراتيجية عسكرية في حرب الحاضنة الشعبية الثوارية. خاصة في محافظة “ريف دمشق” بغوطتيها، فكان حصار مضايا والمعظمية وداريا، وقد وثقت منظمات حقوق الإنسان وفاة ما يزيد على مئتين وستين ضحية معظمهم من الأطفال والعجائز نتيجة الجوع وفقدان الأدوية، وخرجت فتاوى العلماء بتحليل أكل القطط والكلاب لأهل الغوطتين في حال وجدت.
لكن نظام الأسد لم يُلْقِ بالاً لتلك الأخبار، بل اعتبرها مجرد فبركة إعلامية تهدف لتشويه نظامه.
مع ارتفاع وتيرة الضجيج الإعلامي حول حصار المعظمية ومضايا، ونشر وسوم على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان أنقذوا أطفال الغوطة. الغوطة تباد (..) خرج علينا أنصار ومحازبي نظام دمشق بوسوم مضادة، كانت مثلاً للانحطاط الأخلاقي وتعبيراً عن موت إنسانية الإنسان، وراح أنصار هذه الحملة ينشرون مواد إعلانية ساخرة من موت الأطفال في مضايا، كأن ينشر أحدهم صورة له أمام مائدة فيها ما لذَّ وطابَ، مضيفاً عبارة سمجة “متضامن مع مضايا”. اعتبرها البعض سقطة أخلاقية لأنصار النظام، لكن الحقيقة الواضحة أن من فعل هذا هو في الأصل مجرد من الأخلاق ولا ينتمي للإنسانية من قريب أو بعيد. فكيف لإنسان أن يدافع عن سفاح مبير؟
خلال تلك الأحداث الجسام وسنوات الحصار المر، اكتفى مجلس الأمن الدولي بإصدار قرار تقدم به الأردن ونيوزيلندا حول إدخال المساعدات الإنسانية للمشردين والمحاصرين داخل القطر السوري دون تفويض أو موافقة من النظام أو من سلطات الأمر الواقع. وقد اعتمد القرار 2258 بالإجماع والذي يطالب جميع السلطات في سوريا بفتح الطرق للسماح للمساعدات الإنسانية بالدخول دون إعاقة لإنقاذ حياة المشردين والمحاصرين داخلياً. وطالب القرار كافة الأطراف، وعلى وجه الخصوص الحكومة السورية، بفتح ممرات آمنة عبر خطوط النزاع من أجل تأمين مرور المساعدات الإنسانية. ويجدد القرار لمدة سنة كاملة ما جاء في القرار 2165 (2014) الذي يطالب بإدخال المساعدات الإنسانية عبر مداخل الحدود الأربعة لسوريا، دون إذن مسبق أو انتظار موافقة الأطراف المعنية بما فيها السلطات السورية.
وبين الفينة والأخرى يطل علينا مسؤول في تلك الدولة أو المنظمة الحقوقية بتقرير يتحدث فيه عن الفاجعة ويكتفي بالأمل والتمني، لكن نظام الأسد لم يلتفت لكل هذه الضوضاء الإعلامية، مستفيداً من عدم جدية المجتمع الدولي في تطبيق هذا القرار، ومع استمرار تدفق سيل الصور والتقارير الواردة عن موت الناس جوعاً في القرن الحادي والعشرين بأبشع صور الإبادة الجماعية، في ظل استمرار ضمير الأسرة الدولية في سباته العميق.
مجموعة أصدقاء سوريا في اجتماعها الذي انعقد في باريس حاولت إنعاش الضمير الإنساني، فقررت أنه في حالة عدم وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة عن طريق البر، فإن الدول المعنية ستشرع في إسقاط المساعدات التي تشمل الغذاء والدواء باستخدام الطائرات على المناطق المحاصرة داخل سوريا، وبالتنسيق مع الأمم المتحدة.
وجد بشار الأسد نفسه في هذا المشهد وجهاً لوجه أمام ضغوطات منظمة الأغذية العالمية والمطلب الفرنسي الإنجليزي، محملين بوابل من انتقادات مارسها ناشطون ومؤسسات حقوقية وإعلامية حول العالم، فقرر قلب الطاولة وتجيير هذ الضجة الإعلامية والحقوقية لورقة تخدم سياساته، فما كان إلا أن أعلنت حكومة دمشق أنها وافقت على السماح بدخول المساعدات الإنسانية لإحدى عشرة منطقة محاصرة.
بذا حصل نظام دمشق على مشروعية دولية مفتقدة لهث وراءها، ذلك بأن أصرت مؤسسات الأمم المتحدة على مخاطبة حكومة الأسد بصفتها الحكومة الشرعية للبلاد؛ بهدف الحصول على موافقتها بالسماح بمرور قوافل المساعدات، ضاربة عرض الحائط قرار مجلس الأمن الدولي الذي نص صراحةً على إدخال مواد إغاثية إلى المناطق السورية المحاصرة دون موافقة نظام دمشق.
والفائدة الثانية التي حققها نظام دمشق من خلال ذلك تسويق نفسه على أنه مهتم ومعني بالتعاون مع منظومة المجتمع الدولي الإنسانية، وأنه ملتزم بقرارات مجلس الأمن الدولي لكن من خلال مخاطبته كحاكم شرعي للبلاد، برغم ما أهرقه من دماء وما فعله معول هدمه في الديار السورية.
من خلال ما تقدم يمكننا أن نقرر أن المجتمع الدولي ممثلاً في منظمات الأمم المتحدة تعمد إدارة الصراع الدامي في سوريا دون البحث الفعلي عن حلول جذرية، واستخدمت القضايا الإنسانية أداة سياسية يضغط بها على الثوار السوريين للقبول بما يتم طبخه له في مطابخ السياسة الدولية، تجلى ذلك من خلال شكوى منظمة الأغذية العالمية وشقيقاتها الإنسانية من عدم إيفاء الدول بتعهداتها المالية لإغاثة اللاجئين والمحاصرين والمشردين، حتى وصل بهم الأمر إلى إعلان وقف تقديم المساعدات للاجئين في دول الجوار مثل الأردن. وتخفيض ما كان يقدم لبعض الأسر بسبب الشح المالي.
إصرار منظمات الأمم المتحدة على تقديم المساعدات عبر مؤسسات النظام ولا سيما منظمة “الهلال الأحمر” السورية، متجاهلة أن هذه المنظمة هي في الحقيقة تتبع لوزارة الدولة لشؤون الهلال الأحمر، وهي بالتالي جزء من حكومة دمشق التي تمارس الحصار والقتل والتجويع. كذلك التعاون مع منظمات محلية غير موثقة في بعض الدول، الأمر الذي أدى إلى هدر الأموال التي جمعت من أجل إغاثة اللاجئين.
نستشهد بالسفير البريطاني في عمّان، بيتر ميلت، الذي غرد في تويتر “”إنه من الجنون أن ترى المساعدات المقدمة للاجئين السوريين تباع في أحد المولات” حسب القدس العربي”.
كذلك يمكن الاحتجاج بما قاله فرحان حق المتحدث باسم الأمم المتحدة للصحفيين: “تشعر يونيسيف بقلق شديد إزاء تقارير عن عدم وصول بعض إمداداتها الإنسانية إلى وجهتها المقصودة”.
يمكننا المضي قدماً بالقول إن سماح نظام دمشق للقوافل بالوصول كان بتوافق أمريكي روسي؛ لعدم إحراج المنظومة الدولية ومنظمة الأغذية العالمية التي طالبت بإسقاط المساعدات جواً للمناطق المحاصرة. بما يعنيه هذا القرار من تكاليف مادية إضافية تترتب على استئجار طائرات وخدمات تشغيلية ودعم لوجستي، بالتالي على المنظمة طلب هذه الأموال من المجتمع الدولي.
ويستخدمونها مادة إعلامية يتهربون بها من أسئلة الصحفيين والمنظمات الحقوقية عن موت الناس جوعاً في سوريا في القرن الحادي والعشرين، وعن منظومة الأخلاق والقيم الإنسانية التي حطمتها الهياكل الإنسانية لأطفال داريا والمعضمية.
نظام الأسد الذي اعتمد سلاح الجوع سلاحاً أساسياً في معركته ضد الشعب السوري، والذي اضطر للموافقة على دخول مساعدات شكلية إلى داريا وحي الوعر، ليس في ذهنه على الإطلاق التنازل عن هذا السلاح الفتاك، حاول مراراً عرقلة وصول الإمدادات للمناطق التي تحاصرها مليشياته، تارة بعدم الموافقة أو من خلال سحب المواد الطبية والجراحية من تلك القوافل، وفي كثير من الأحيان حاول استغلال تلك المساعدات من أجل عقد مصالحات مع فصائل تلك المناطق. وما زال يلعب لعبة العصا والجزرة مع المناطق المحاصرة والمجتمع الدولي، فالمناطق التي يريد تهدئة جبهاتها للتفرغ لجبهة أخرى كان يسمح بدخول قوافل مساعدات إليها.
والتي فرض عليه دولياً إدخال مساعدات إليها قام بقصفها أثناء وجود ممثلي منظمات الأمم المتحدة كما حدث في داريا منذ أسابيع.
يمكننا الرجوع إلى ثلاثة أشهر خلت عندما أجبر النظام على إدخال مساعدات “للحولة” والرستن، في ريف حمص مارس الماضي، وبعد أيام من إدخال تلك المساعدات تم معاقبة الحولة التي وصلها حوالي “33 شاحنة” مساعدات بأن استهدفت بعدها بـ66 برميلاً متفجراً بمعدل برميلين لكل شاحنة مساعدات تم إدخالها، كما تم تدمير المشفى الميداني في تلك الغارات.
خلاصة القول إن السماح بدخول قافلة مساعدات هنا أو هناك لا يعني انتهاء الحصار ووقف موت الأطفال جوعاً، والمجتمع الدولي غير جدي في وضع نقطة نهاية القتل المستحر في الشعب السوري.
ميسرة بكور
كاتب وباحث سوري