ترتكز العنصرية في جوهرها على اختلال موازين القوة، وكلّما بدا الطرف الذي يُقابَل ويُعامَل بعنصرية ضعيفاً، بالغوا في عنصريتهم وصعّدوا بممارستها، كي يحققوا الهدف المنشود، وهو المحافظة على اختلال موازين القوة وعلى بقاء الضعيف أضعف، ساكناً، مذعوراً، غير قادر على الرد، وإن كان قادراً، فهو لا يتجرّأ.
شهدت وسائل التواصل الاجتماعي على صفحات السوريين في الأيام الماضية حملة ردود كبيرة وواسعة على إعلامية لبنانية اتهمت الشعب السوري بالتخلّف. واحد فقط، وهو محام، قرّر إقامة دعوى قضائية. وعبر متابعة هذه الردود، كان الردّ الأكثر سيولة، هو التعامل بعنصرية أيضاً مع تلك الإعلامية بوصفها امرأة، أي ما قد يُصطلح على تسميته بالعنصرية المضادة، وفقط لأنها امراة. إذ شبّهها البعض بالمغنّي مايكل جاكسون، والبعض الآخر خاطبها بنعوت ذكورية، وطاولت غالبية الردود شكلها الخارجي، بتهكّم وسخرية بالغين، كما تعرّض القليل من الردود لطائفة الإعلامية المذكورة.
وإن تمظهرت التصرفات أو الحوادث العنصرية بطرق شخصية، لكنها في العمق ذات مدلول ثقافي جمعي، ومنتج إقصائي جذره سياسي يصادر حقوق الآخرين ويعتدي عليها مباشرةً. وإن وسعنا دائرة هذا الحدث، كان حريّاً بالسوريين المهاجمين لتصرفات تلك الإعلامية وأقوالها، أن يقدّموا الشكاوى والاعتراضات على المؤسسة الإعلامية التي سمحت لتلك السيدة بإكمال أو إعلان أقوالها العنصرية على الملأ، وبحرية كاملة دون أن يوقفها أحد، أو يصحّح لها أو ينبّهها أحد إلى خطورة ما أعلنته. لا بل لم تقم تلك الجهة الإعلامية بوقف نشر تلك المقابلة، ورغم كلّ الجدل السريع الذي حصل بعدها، لم تقم تلك الجهة بسحب المقابلة من التداول الإعلامي، وخصوصاً على منصات التواصل الاجتماعي، كذلك لم يعتذر أحد، ولم يتبرأ أحد من تلك الأقوال الطافحة بالعنصرية والسخرية من شعب بأكمله.
تتجلّى أزمة العنصرية بوضوح وتتحوّل إلى قمع وإقصاء في ظلّ غياب علاقات وقيم المواطنة
من صور العنصرية المضادة أن يردّ السوريون على كلّ محاولات إعلان العنصرية تجاههم بالردّ على أشخاص بعينهم، وعلى النساء بشكل خاص، عبر اتهامات تمسّ الشرف الشخصي والعام واسم العائلة ورقم الخانة وعنوانها… للأسف، تتجاهل الردود على أيّ تصرف أو إعلان عنصري، الإجراءات القانونية واللجوء للقضاء كأحد الحلول، بل يبالغ أصحاب الردود في تسخيف الخصم، وفي النيل من جنسه، خصوصاً إذا كان امرأة، أو إذا كان من مدينة بعيدة مختلفة كلّ الاختلاف عن ثقافة المدينة الجديدة. ومع الوقت، يحمل حيّ معين أو مكان تجمّع لأشخاص لجأوا إلى المكان الجديد اسم مدينتهم أو قريتهم الأم، فيصبح التعامل معهم على قاعدة الحدود، مع أنّ هذا الحي ملاصق، بل جزء أصيل من المدينة التي جرى اللجوء إليها. وقد يبالغ البعض في معاداة أيّ شخص وممارسة العنصرية تجاهه، بناءً على مكان سكنه فقط لا غير، وقد يبرّر البعض انقطاع الماء أو الكهرباء بشكل دائم أو عدم قبول أصحاب صهاريج المياه الدخول إلى تلك المناطق بذريعة وصمة الانتماء.
تتجلّى أزمة العنصرية بوضوح وتتحوّل إلى قمع وإقصاء في ظلّ غياب علاقات وقيم المواطنة، وفي ظلّ غياب أو تجاهل أدوات تعاقد مشتركة ومتساوية متاحة للجميع، وأمام الجميع، تحت شروط وقواعد تردع المخالفين وتعاقبهم، وتحفظ حقوق الجميع تحت مظلة القانون.
لا يمكننا أبداً، تجريم أشخاص فقدوا كلّ إمكانيات العيش الكريم لنصفهم بالحثالة أو بالمجرمين أو بالزعران، وهم عزّل من أيّ آلية حماية، لذلك تبلغ العنصرية المضادة حدودها القصوى عندما يردّ شخص ما على عنصرية شخص آخر بردود لا تنتمي إلى فكرة المساواة أو حفظ الحقوق، بل تتقصد الردّ على الإهانة والتسخيف والإلغاء بذات الأدوات، مهما كانت هشّة وانفعالية وغوغائية أيضاً.